في فيفري من سنة 1928، لم تكن الجلسة العامة التي التأمت في أحد أروقة العاصمة مجرد اجتماع لتسيير نادٍ رياضي حديث التكوين، بل كانت لحظة تاريخية فارقة، رسمت معالم هوية تونسية ثقافية وسياسية جديدة انطلقت من رحم النادي الإفريقي.
ففي مشهد يكاد يُختصر فيه الوطن، اجتمع أكثر من ثلاثين شخصية بين وطنيّ ومفكر ورياضي وفنان، في مقدمتهم الزعيم الحبيب بورقيبة، الذي ظهر في صورة خالدة بالصف الخلفي لجلسة الإفريقي، وسط كوكبة من المؤسسين والفاعلين في حركة التنوير الوطني.
🧠 نادي النخبة لا الجماهير فقط
النادي الإفريقي لم يكن منذ التأسيس سنة 1920 (باسم الملعب الإفريقي) مجرّد جمعية رياضية؛ بل كان منذ بدايته فضاءً حضاريًا تقدّميًا. وعندما أعيد تأسيسه باسمه الجديد سنة 1927 بعد تجميد الملعب الإفريقي من قبل السلطات الفرنسية، أصبح بمثابة نادٍ للنخبة التونسية التي قاومت الاستعمار بالسلاح الثقافي والاجتماعي.
إن قراءة تركيبة الحضور في جلسة فيفري 1928 تبرز بوضوح هذه الفلسفة:
- مصطفى صفر، ابن البشير صفر وشيخ مدينة تونس، تولى رئاسة الإفريقي لاحقًا، وكان أول رئيس لفرقة الرشيدية.
- عبد العزيز العقربي، الذي لقب بأب المسرح التونسي، أسس فرقًا مسرحية واحتضن المواهب، وكان أحد أعمدة الإذاعة الوطنية لاحقًا.
- أحمد بن ميلاد، الطبيب والمثقف ورفيق درب الثعالبي وحشاد، لقب بـ"دكتور الشعب" ومؤسس أول مدرسة مختلطة سنة 1948.
- جمال الدين بوسنينة، أول صحفي رياضي بالإذاعة، من رموز جماعة تحت السور، وأحد أهم المبدعين في النصف الأول من القرن العشرين.
🟢 الجلسة التي جمعت السياسي بالمسرحي بالطبيب بالموسيقي
قد لا يتكرر في التاريخ أن تجتمع في مكان واحد شخصيات جمعت السياسة بالفكر بالفن بالرياضة في صورة واحدة: بشير بن مصطفى (أول رئيس للنادي)، عبد المجيد الشاهد (صاحب فكرة تغيير اسم الملعب الإفريقي)، محمود ملوش (أبرز المحامين)، الشاذلي الورقلي (أول كاتب عام)، أحمد خير الدين (صاحب نشيد حماة الحمى)، وغيرهم...
🏛️ الإفريقي: وعي مدني سابق لعصره
اجتماع مثل هذا لم يكن ممكنًا لولا وعي مبكر بأن الرياضة ليست لعبة فقط، بل وسيلة للانتماء، وللتنظيم المدني، وللتعليم غير النظامي في زمن كانت فيه السلطة الاستعمارية تُضيّق على العمل السياسي والثقافي المنظم. فكان النادي الإفريقي بديلاً عن الأحزاب الممنوعة والمدارس المغلقة والمقاهي المراقبة.
📸 بورقيبة... هناك في الصف الخلفي
الصورة التي ظهر فيها الحبيب بورقيبة شابًا في الصف الخلفي، هي أكثر من لقطة أرشيفية؛ إنها شهادة على انتمائه المبكر إلى الحركات المدنية المنظمة، وهي الوجه الآخر لنضاله الوطني والسياسي. فبورقيبة لم يأت من فراغ، بل من بيئة تأسست على الوعي والالتزام الجماعي، وكان الإفريقي أحد أعمدتها الأولى.
✅ النادي الإفريقي، في تلك الجلسة سنة 1928، لم يكن يبني فقط مستقبل فريق رياضي، بل كان يُرسّخ نواة مجتمع مدني تونسي وطني، نخبوي بالمعنى التنويري، ديمقراطي بالممارسة، وشعبي بالانتماء.
🟥 تونس الجديدة... بدأت من "باب الجديد".