في عالم يتغير كل ثانية بفعل تطور التكنولوجيا وتضخم دور وسائل الإعلام لم تعد المدرسة قادرة على تأدية دورها التقليدي في معزل عن ما يعيشه التلميذ يوميا من تأثيرات مرئية ومسموعة ومقروءة تشكّل وعيه وتوجّه مواقفه دون وعي منه، ومن هذا المنطلق يصبح إدراج مادة التربية على وسائل الإعلام والاتصال في المنظومة التربوية التونسية ضرورة حتمية لا مجرد خيار وذلك بالنظر إلى حجم التحديات الجديدة التي تواجهها الأجيال الناشئة، فالتلميذ اليوم لا يواجه فقط صعوبات في التحصيل الدراسي لكنه يواجه أيضا عالما رقميا غزير المحتوى مملوءا بالمغالطات والصور المفبركة والدعاية الموجهة، ومن هنا تنبع الحاجة إلى مشروع قانون يحدث خطة مدرس متخصّص في التربية على وسائل الإعلام والاتصال كآلية لترميم فجوة الوعي وبناء عقلية نقدية في مواجهة الطوفان الرقمي.
وإذا ما تعمقنا أكثر، فإن المشروع لا يقتصر على معالجة خلل معرفي داخل الفصول لكنه يجيب في الآن ذاته على أزمة اقتصادية واجتماعية حقيقية تتمثل في ارتفاع معدلات البطالة في صفوف خريجي معهد الصحافة وعلوم الإخبار وهي فئة تمتلك من الكفاءات التقنية والتحليلية ما يؤهلها لأن تتحول من طاقة معطلة إلى مورد بشري فاعل داخل المؤسسات التربوية، وهنا يتقاطع الوعي السياسي مع الحس الاقتصادي لتبنى رؤية تشريعية تدمج الاختصاص المعطل في خدمة مرفق عمومي يحتاج إلى التجديد من الداخل.
ولعل ما يضفي على المقترح وجاهة استثنائية هو أنه يربط بين المصلحة التربوية والمصلحة المجتمعية فمادة التربية الإعلامية لا تهدف فقط إلى تمكين التلميذ من التفريق بين الرأي والمعلومة أو بين المحتوى المهني والمحتوى الموجه بل تسعى أيضا إلى تكوين جيل قادر على المساءلة وعلى استهلاك المعرفة بوعي وعلى المساهمة الفعالة في فضاء عمومي يزداد تعقيدا مع كل تطور تكنولوجي جديد، وهنا تتضح أهمية مقاربة شاملة تجعل من هذه المادة جسرا بين المدرسة والعالم، بين التلميذ والمواطنة الرقمية، وبين التعليم والتفكير النقدي.
علاوة على ذلك، فإن المشروع لا يكتفي بإحداث خطة مدرس إنما يتوسع إلى اقتراح مسار إدماجي كامل يشمل التكوين البيداغوجي ووضع كراس شروط مضبوط للانتداب وخلق لجنة وطنية متعددة الاختصاصات تتابع وتقيم وتطور هذا المسار تدريجيا مما يدل على وعي عميق بأهمية التأسيس المنهجي للمادة المقترحة، فالمسألة لا تتعلق بمجرد إضافة فصل إلى البرنامج التعليمي لكن بإعادة صياغة فلسفة التعليم من خلال اعتماد أدوات تربوية تتماشى مع العصر وتستبق مخاطره.
ومن جهة أخرى، فإن المقترح يحدث تداخلا مُثمرا بين قطاع التربية وقطاع الإعلام فيحول خريجي الصحافة من هامش البطالة إلى مركز صناعة الوعي التربوي ويمنح المؤسسات العمومية فرصة الاستفادة من خبراتهم من خلال تخصيص نسب من الانتدابات في مكاتب الإعلام والاتصال على المستوى الوزاري والجهوي والمحلي وهو ما يكرس مبدأ العدالة الوظيفية والاستثمار الأمثل في الكفاءات.
ولأن التجربة التونسية لا تنطلق من فراغ، فإن استلهام نماذج عالمية سابقة كما حدث في أستراليا والفيليبين والأردن يظهر أن هذا النوع من المواد لم يعد ترفا تربويا لكنه كان ضرورة استراتيجية تبنتها الدول التي تسعى إلى بناء ديمقراطيات صلبة ومجتمعات متماسكة معرفيا، فما بالك بتونس التي تمر بمرحلة دقيقة من تاريخها وتحتاج إلى إعادة تشكيل ثقافتها السياسية والمدنية من الأساس؟
من هنا، يمكن القول إن المشروع المقترح لا يندرج ضمن الرؤية الإصلاحية التقليدية بل يقطع معها ويؤسس لتحول جوهري في علاقة المدرسة بالعالم الخارجي، فهو يفتح أفقا جديدا لفهم التربية كمشروع مواطني يرمي إلى صناعة الإنسان الواعي لا فقط المتعلم ويعيد الاعتبار للمعلومة بوصفها أداة تحرير لا أداة توجيه ويعطي للكلمة سلطة وللصورة معنى وللرأي وزنا.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل التأثير العميق للذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المحتوى التوليدي على وعي التلميذ مما يجعل من التربية الإعلامية وسيلة دفاع لا تقل أهمية عن أي مادة علمية أخرى، فهي تمنح التلميذ مناعة فكرية تمكنه من الصمود أمام الحملات المضللة والتأثيرات النفسية السلبية والاستهلاك اللامشروط للمعلومة، ومن هنا يتحول مشروع القانون إلى أداة سيادية لحماية العقل الوطني وصيانة الفضاء الرقمي من الفوضى الأخلاقية والمعرفية.
كما وإن ما يجعل هذا المقترح متميزا هو قدرته على إعادة توزيع الأدوار داخل الدولة نفسها عبر تمكين المدرسة من أن تتحول إلى حاضنة وعي وتمكين خريجي الصحافة من أن يتحولوا إلى مدرسين للمعنى لا فقط لمضمون، وبهذا المعنى يصبح هذا القانون دعامة لإصلاح أعمق ينفذ إلى جوهر العلاقة بين المواطن والمعرفة، بين الفكرة والدولة وبين الإعلام كسلطة رابعة والتربية كسلطة أولى في تشكيل العقول.
اليوم نحن أمام مقترح يتجاوز حدوده الإجرائية ليعلن عن رؤية جديدة للمدرسة العمومية، مدرسة تصنع العقول لا تكرس الحفظ، مدرسة تعلم التلميذ كيف يقرأ بين السطور لا كيف يكتفي بالسطر، مدرسة تسلحه بالحجة لا بالشهادة فقط، مدرسة تصالح التلميذ مع واقعه لا تبعده عنه، مدرسة تنبت في داخله سؤال "لماذا؟" قبل أن تعطيه "كيف؟"، مدرسة تجعل من الوعي مشروعا يوميا لا مناسبة موسمية، مدرسة لا تنتج تابعين لكن تخرج ناقدين للبناء والتغيير.