اختر لغتك

الأمن الوطني بين التحدي والكرامة

الأمن الوطني بين التحدي والكرامة

الأمن الوطني بين التحدي والكرامة

منذ نيل تونس استقلالها في عام 1956 وجهاز الأمن الوطني يشكل العمود الفقري لاستقرار الدولة وحفظ سيادتها حيث لم يكن مجرد هيئة تنفيذية وإنما مؤسسة حيوية ترتكز على مبادئ القانون والنظام والاحترام المتبادل بين الدولة والمجتمع، فالأمن الوطني في جوهره هو منظومة متكاملة من الإجراءات التشريعية والتنظيمية التي تضعها الدولة لضمان سلامة مواطنيها وحماية أراضيها من أي تهديد داخلي أو خارجي عبر أجهزة أمنية منظمة تشمل الأمن الوطني، الحرس الوطني، الشرطة العدلية، شرطة المرور والحماية المدنية التي لا تقتصر مهامها على حفظ النظام فحسب لكنها تمتد لتشمل حماية الأرواح والممتلكات في مواجهة الكوارث والأزمات.

وقد تأسس هذا النظام بداية بالقانون عدد 33 لسنة 1956 الذي حدد الإطار التنظيمي لعمل الأجهزة الأمنية بعد الاستقلال مؤكدا على ضرورة احتكار الدولة لأدوات تطبيق القانون وحفظ النظام العام ولكن كان هذا القانون جامدا في مضمونه ومحدود الاستجابة للتغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها تونس فيما بعد، وقد تطورت بعدها التشريعات الأمنية وكان من أبرزها القانون عدد 12 لسنة 1969 الذي منح السلطات التنفيذية صلاحيات واسعة في تنظيم ومنع التجمهرات دون رقابة قضائية فاعلة وهو ما شكل نقطة تحول في العلاقة بين الأمن والحريات العامة إذ بدأت تظهر إشكالية التوازن بين فرض النظام وحرية التعبير.

وفي عام 1982 صدر القانون رقم 70 الذي أصبح الإطار القانوني المرجعي للأمن الداخلي وقد حدد بشكل مفصل هيكلة الأجهزة الأمنية ومسؤولياتها، إلا أن هذه التشريعات لم تواكب التطور الكبير في طبيعة التهديدات التي لم تعد تقليدية فقط بل شملت التحديات الأمنية الجديدة مثل الإرهاب، الجرائم المنظمة والجرائم الإلكترونية دون إقرار حماية قانونية كافية لأعوان الأمن الذين يعملون في ظروف معقدة ومتغيرة، ومن جانب آخر وضع الأمر عدد 546 لسنة 1991 النظام الأساسي لأعوان الأمن الذي نظم الرتب والتكوين لكنه لم يعالج بشكل كاف التفاوتات الاجتماعية والوظيفية ولم يوفر الحماية القانونية اللازمة للأعوان في مواجهة المخاطر المهنية.

ومع انطلاق الثورة عام 2011، دخل الجهاز الأمني في قلب نقاش وطني حاد خاصة مع تزايد الاعتداءات على الأعوان في فترة كانت تعيش فيها البلاد حالة من التوتر وعدم الاستقرار فبرزت الحاجة إلى حماية هؤلاء الأعوان عبر مشاريع قوانين مثل قانون 2015 الخاص بزجر الاعتداءات على القوات المسلحة والذي رغم أهميته لم يكتمل تطبيقه بسبب الأجواء السياسية والاجتماعية المضطربة مما أثر سلبا على معنويات الأمنيين وثقتهم بمنظومة العدالة، وفي 2022 صدر قانون تنظيم حالة الطوارئ رقم 9 الذي أبقى على صلاحيات تنفيذية واسعة دون رقابة قضائية مسبقة ما ألقى بأعباء قانونية كبيرة على أعوان الأمن في ظل غياب ضمانات كافية تحميهم.

من الناحية الدستورية، يبرز دستور 2022 أهمية التوازن بين حفظ الأمن واحترام الحريات حيث نص في الفصل 38 على أن الدولة تتولى حفظ الأمن والنظام العام في إطار احترام القانون والحريات وهو ما يعكس حاجة ملحة إلى تطوير القوانين التنظيمية لتتماشى مع هذا التوازن خصوصا في ظل تحديات معقدة تشمل الإرهاب، الجريمة المنظمة والتهديدات الإلكترونية المتسارعة.

ويضاف إلى ذلك أن العولمة والتطور التكنولوجي اللذين يشهدهما العالم قد شكلا أبعادا جديدة للأمن الوطني حيث أفسحت العولمة المجال أمام جرائم عابرة للحدود تتطلب تعاونا دوليا متينا وأدوات أمنية متطورة في حين فرضت الثورة التكنولوجية وبخاصة الذكاء الاصطناعي ضرورة اعتماد تقنيات ذكية في كشف التهديدات وتحليل البيانات الأمنية مع ضرورة إرساء قواعد قانونية تحمي الخصوصيات وتحفظ الحقوق لتجنب الانتهاكات أو الاستخدام التعسفي لهذه التقنيات.

إلا أن الواقع التشريعي في تونس لا يزال يشهد فراغات واضحة تتمثل في غياب تعريف دقيق يميز بين الاعتداء الجنائي والمخالفات الإدارية على أعوان الأمن مما يتيح تفسيرات متعددة قد تهدد حقوقهم القانونية، كما أن هناك نقصا في آليات رقابية مستقلة تمنع الاتهامات الظالمة وتحمي حقوق الأمنيين في الميدان بالإضافة إلى قصور في الاعتراف بدور الأمن كشريك فعلي في بناء السلم الاجتماعي وليس مجرد منفذ للأوامر التنفيذية فقط، هذا القصور القانوني انعكس أيضا في ضعف إدماج التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي في إطار تشريعي واضح ما يحد من فعالية الأجهزة الأمنية في مواجهة التهديدات المعاصرة.

من ناحية المقارنة الدولية، تقدم تجارب دول مثل فرنسا وألمانيا وكندا نموذجا متقدما في تطوير القوانين الأمنية حيث تعززت هذه الدول بهيئات رقابية مستقلة وقوانين توازن بين حقوق الأمنيين وحقوق المواطنين مع اعتماد تقنيات ذكية تحترم الخصوصية وتوفر برامج تدريبية مستمرة لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان داخل صفوف الأمن، ولعل هذه التجارب تقدم لتونس نموذجا يحتذى به في التحديث التشريعي والمؤسساتي الذي يمكن أن يواكب تطورات العصر ويدعم المؤسسة الأمنية.

وبناء على ذلك، تبرز الحاجة إلى مراجعة شاملة لقانون 1982 بحيث يشمل حماية قانونية واجتماعية متطورة للأعوان ويحدث مهامهم لتشمل التعامل مع التحديات الرقمية والجرائم العابرة للحدود بالإضافة إلى تأسيس هيئة وطنية مستقلة تعنى بحقوق الأمنيين ورقابة الأداء، كما يجب إدماج الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة ضمن النصوص القانونية مع وضع ضوابط صارمة تحمي الحقوق والخصوصية إلى جانب إرساء مبدأ العدالة الأمنية الذي يوازن بين فرض النظام واحترام كرامة الإنسان في التشريع والتكوين والممارسة.

كما ينبغي تطوير برامج تكوين مشتركة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع لتعزيز ثقافة الشراكة والثقة المتبادلة مع ضمان نظام ترقيات عادل وحماية اجتماعية ونفسية شاملة للأعوان ليتمكنوا من أداء مهامهم بفعالية وأمان، كما وأن الدفاع عن المؤسسة الأمنية ليس غض الطرف عن النواقص لكنه التزام بأن يبنى أمن الوطن على قانون عادل يحفظ كرامة أعوانه ويمنحهم الحماية والدعم لأنهم رجال ونساء الأمن الذين يضحون بالغالي والنفيس لأجل حماية الوطن.

ففي زمن العولمة والتكنولوجيا المتسارعة تبقى المؤسسة الأمنية في تونس حجر الأساس الذي تبنى عليه الدولة الحديثة وهي بحاجة إلى تشريع عصري متكامل لا يكتفي بمواجهة التهديدات فحسب لكنه يعزز الثقة بين الدولة والمجتمع ويضمن حماية الحقوق والحريات، فالأمن الحقيقي هو الذي يحفظ حرية وكرامة الإنسان وينشئ شراكة وطنية حقيقية بين الدولة، الأمن، والمواطن في أفق مستقبل أكثر إشراقا وتطورا.

آخر الأخبار

البلايلي يقلب الطاولة: لا تجديد مع الترجي ووجهة جزائرية تلوح في الأفق!

البلايلي يقلب الطاولة: لا تجديد مع الترجي ووجهة جزائرية تلوح في الأفق!

عنوان مثير: "مشادة نارية في نهائي المونديال: إنريكي يواجه خطر الإيقاف الشامل!"

عنوان مثير: "مشادة نارية في نهائي المونديال: إنريكي يواجه خطر الإيقاف الشامل!"

🔴 فضيحة في الكواليس: كيف فرّطت هيئة الإفريقي السابقة في حقوق النادي؟

🔴 فضيحة في الكواليس: كيف فرّطت هيئة الإفريقي السابقة في حقوق النادي؟

الأمن الوطني بين التحدي والكرامة

الأمن الوطني بين التحدي والكرامة

💰 منجم بمليوني دولار... يخفي كنزًا بـ37 مليارًا ويُشعل سباق المعادن النادرة في أميركا!

💰 منجم بمليوني دولار... يخفي كنزًا بـ37 مليارًا ويُشعل سباق المعادن النادرة في أميركا!

Please publish modules in offcanvas position.