في عمق الأزمة الصحية التي تخترق نسيج الدولة التونسية يطفو إلى السطح ملف الأطباء الشبان لا بوصفه أزمة قطاعية معزولة لكن كعرض سريري لحالة إنكار مستدامة تمارسها السلطة تجاه منظومة تنهار تحت وطأة التهميش والتسويف واللامبالاة المؤسسية، وفي هذا السياق المتأزم لم تكن الرداء الأبيض مجرد زي مهني لكنه تحول إلى راية احتجاجية وإلى شعار رمزي لصراع طويل المدى يتقاطع فيه المهني بالوجودي والإنساني بالسياسي.
فالتحركات الاحتجاجية التي انطلقت يوم 21 أفريل 2025 لم تكن وليدة ظرف عابر أو حدث طارئ بل ثمرة تراكمات ثقيلة لسنوات من الإقصاء الهيكلي وسوء التصرف في الموارد والسياسات، فقد نفذ الأطباء الشبان إضرابا عاما كان بمنزلة دق ناقوس خطر داخل مستشفيات عمومية تشهد تدهورا يوميا في مستوى الخدمات يقابله صمت رسمي وتبريرات متكررة باسم "القدرة المالية المحدودة" أو "المرحلة الاستثنائية" وكأن الأزمة الصحية ليست أولوية وطنية.
ولم تمض أيام قليلة حتى نزل الأطباء الشبان إلى الشارع مجددا وتحديدا يوم 2 ماي في مسيرة احتجاجية واسعة انطلقت من قلب العاصمة نحو مقرّ الحكومة وحملت معها مطالب واضحة تتعلق بتحسين ظروف العمل وزيادة المنح وضمان تكوين طبي فعلي بدلا من التكوين الصوري القائم على الاكتظاظ ونقص التجهيزات وغياب التأطير وهذه التحركات لم تكن معزولة عن الرأي العام لكنها لقيت تضامنا من منظمات مجتمع مدني ونقابات أخرى إذ فهمت لا فقط كمطلب نقابي بل كجزء من معركة أوسع من أجل حماية القطاع الصحي العمومي وإنقاذه من الانهيار.
ومع حلول شهر جوان، قرر الأطباء الشبان خوض إضراب جديد دام خمسة أيام متتالية في ظل تواصل سياسة التجاهل والمماطلة من قبل الجهات الرسمية خاصة وزارة الصحة ووزارة التعليم العالي ما عمق الإحساس بالخذلان بل وبالاحتقار لدى فئة تمثل حجر الزاوية في منظومة الرعاية الصحية.
هذا ولم تكن المطالب المرفوعة خارج نطاق المعقول أو غير قابلة للتنفيذ لكنها تتعلق بأساسيات المهنة وأبسط حقوق العاملين في قطاع حيوي، إذ تتصدر قائمة المطالب ضرورة تحسين المنح الشهرية للأطباء الداخليين والمقيمين نظرا لتدني قيمتها مقارنة بساعات العمل الفعلية وطبيعة المهام الحساسة التي يقومون بها والتي تشمل حراسة أقسام الاستعجالي وإنعاش الحالات الحرجة ومتابعة المرضى على مدار الساعة غالبا دون عطل أو تغطية تأمينية كافية.
كما طالب الأطباء بإلغاء الخدمة المدنية الإجبارية التي تفرض عليهم بعد انتهاء التكوين والتي غالبا ما يتم تنفيذها في ظروف قاسية داخل مستشفيات داخلية تفتقر إلى الحد الأدنى من البنية التحتية والتجهيزات دون تعويضات كافية أو حتى تقدير معنوي، فبدل أن تكون الخدمة المدنية فرصة لبناء جسور بين الأطباء والمجتمعات المحلية تحولت إلى عبء بيروقراطي يفرض بلا حوار ويدار بلا رؤية.
ويضاف إلى ذلك مطلب مراجعة نظام التأجير الذي ظل جامدا منذ سنوات لا يعكس لا التضخم ولا طبيعة العمل الفوق بشري الذي يطلب من الطبيب الشاب، إلى جانب ضرورة تقليص عدد ساعات العمل الليلية التي تؤثر بعمق على الصحة النفسية والجسدية للمهنيين وتجعل من الإرهاق المزمن أمرا يوميا يتسبب في تراجع الأداء وفي أخطاء مهنية محتملة يدفع المريض وحده ثمنها.
وإذ كان المنتظر من السلطة أن تتفاعل مع هذه المطالب بالحوار والاعتراف بالمشكل والانفتاح على الحل، فإن جلسة التفاوض التي انعقدت في 30 جوان 2025 شكلت نقطة فاصلة في الأزمة، فقد صدر عن وزير الشؤون الاجتماعية خلال الجلسة تهديد مباشر بالتتبعات القضائية ضد الوفد التفاوضي الممثل للمنظمة التونسية للأطباء الشبان في حال استمرت التحركات الاحتجاجية وهو ما أثار صدمة في الأوساط الطبية والحقوقية واعتبر سابقة خطيرة تمثل انتقالا من تجاهل المطالب إلى محاولة تجريمها.
هذا التهديد بدل أن يرهب عمق من وحدة الصف ووسع دائرة التضامن وأكد أن الأزمة لم تعد مهنية فقط بل تحولت إلى قضية حرية تعبير وممارسة ديمقراطية داخل فضاء النقاش العام الذي من المفترض أن يشمل العاملين في القطاع الصحي كأي فاعلين في المجتمع.
وفي خلفية هذا الحراك، لا يمكن إغفال الوضع الكارثي للمستشفيات العمومية التونسية التي تعاني من نقص حاد في المعدات والأدوية والكفاءات الطبية حيث أُجبر العديد من الأطباء الشبان على العمل في أقسام دون إنارة كافية أو في فضاءات لا تصلح للاستشفاء بل تصلح بالكاد للحفاظ على الحياة، هذا الواقع دفع الآلاف من الأطباء لاسيما الشبان إلى التفكير الجدي في مغادرة البلاد بحثا عن ظروف مهنية وإنسانية أفضل ما يشكل نزيفا بشريا خطيرا سيُفقد المنظومة الصحية عصبها الحقيقي.
ولعل ما يجري اليوم في صفوف الأطباء الشبان ليس تمردا على الدولة لكنه محاولة يائسة لإنقاذها من ذاتها من تغول البيروقراطية ومن عقلية التسويف ومن خطاب يعد بالإصلاح في العلن ويمارس التنكيل في الكواليس وهي لحظة مواجهة حقيقية بين من لا يزال يؤمن أن المرفق العمومي يمكن إنقاذه ومن لا يرى فيه سوى عبء يجب تقليصه أو خصخصته.
ولذلك فإن هذه الأزمة وإن بدت قطاعية في ظاهرها إلا أنها تضع البلاد بأكملها أمام مفترق طرق، فإما أن تعيد الدولة الاعتبار للكفاءة وللقطاعات الحيوية وللأصوات الحرة أو أن تستمر في إدارة الظهور وتدفع البلاد نحو مزيد من الانهيار الاجتماعي.
هذا وتعد الصحة كما التعليم ليس مجرد امتياز لكنها ركيزة من ركائز السيادة والكرامة الوطنية ومن يحتج اليوم في ساحة الحكومة قد يكون غدا هو ذاته من ينقذ حياة أحد المسؤولين تحت ضوء هاتفه في قسم دون كهرباء ودون مستقبل.