اختر لغتك

ضمير الرحمة الحيوان بين الشرع والقانون

ضمير الرحمة الحيوان بين الشرع والقانون

في صمت الطبيعة حيث لا تسمع سوى أنفاس خفية وخطى مترددة لكائنات خلقها الله بغير لسان يطالب ولا يد تشتكي تقف الحيوانات شاهدة على عدالة الإنسان أو ظلمه، فليس للحيوان لسان قانون ولا منصة إعلام ولا حصانة مجتمعية، ومع ذلك فإن حضورها في الضمير الإنساني والديني والقانوني راسخ يتحدى التاريخ والفكر والشرع، فهل نمتلك من الوعي ما يكفي لنرى الحيوان ككائن حيّ له حقوق وجودية وروحية وتشريعية؟ أم ما زلنا نختزله في منطق المنفعة والاستغلال؟

الإسلام لم يؤسس لعلاقة الإنسان بالحيوان على قاعدة الهيمنة والانتفاع بل على قاعدة الأمانة والرحمة ويكفي أن نبدأ من قول الله تعالى في كتابه العزيز:

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود، 6)،

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام، 38).

هذان النصان القرآنيان يُلغيان تماما فكرة تفوق الإنسان على باقي الكائنات بمفهوم الاستعلاء الظالم ويقرران بأن الحيوان أمة لها نسقها وكرامتها وسُبل عيشها وأنه مخلوق مستقل في القيمة لا تابع.

وقد تجسدت هذه الفكرة القرآنية في سلوك النبي محمد ﷺ حين جعل من الرفق بالحيوان معيارا إيمانيا يحاسب عليه الإنسان في الدنيا والآخرة،  ففي الحديث الصحيح:

"دخلت امرأة النار في هرّة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"،

وفي المقابل نجا رجل من النار بسبب سقي كلب عطشان فقال النبي ﷺ: "فشكر الله له فغفر له".

هذا التحول من الفعل الصغير إلى المصير الأبدي ليس تهويلا بل ترسيخ لرؤية تشريعية تؤمن بأن الرحمة وإن بدت "بسيطة" هي قدر أخلاقي.

وقد نهى ﷺ عن تعذيب الحيوان حتى في سياق الصيد أو الذبح فقال:

"إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة وليُحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" (رواه مسلم)،

ونهى عن اتخاذ الحيوانات أهدافا للرمي:

"لعن الله من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا" (رواه البخاري)،

ونهى عن الوسم بالنار في وجه الحيوان وقال:

"إني لا أُعذّب بوجه من وجوه الله" (رواه مسلم).

ليس هذا خطابا وجدانيا عاطفيا فحسب لكنه تشريع متكامل ضمن ما يسميه الفقهاء "حقوق غير الإنسان" وهي حقوق شرعية غير قابلة للتفريط، فقد أقر المالكية والشافعية والحنابلة ومن قبلهم أبو حنيفة بحرمة إيذاء الحيوان بلا سبب كما أجازوا إخراج الزكاة لإطعام الحيوان عند الضرورة واعتبروا أن الإهمال المقصود يعد ضمانا في الذمة المالية.

وهذا المنظور لا يخص الإسلام فقط ولكن يوجد ما يشبهه في ديانات أخرى كاليهودية التي توصي بتقديم الطعام للحيوانات قبل النفس في تفسيرهم لقوله: "وتشبع بهيمتك قبلك" (سفر الخروج 23:12)، وفي المسيحية التي دعت إلى الرحمة العامة على الخليقة معتبرة أن "كل الخليقة تئن وتتمخض معا" (الرسالة إلى رومية 8:22).

لكننا إذا انتقلنا إلى الواقع القانوني نفاجأ بتفاوت واضح بين سمو النصوص وتراخي التطبيق، ففي تونس تم إصدار القانون عدد 2005-95 المؤرخ في 18 أكتوبر 2005 والمتعلق بـ"دعم وحماية الحيوانات" وهو قانون متميز في صيغته لكنه ضعيف في فاعليته، ينص القانون على منع أي شكل من أشكال العنف أو الإهمال أو التعذيب المادي أو المعنوي تجاه الحيوانات، كما يلزم مالك الحيوان بتوفير التغذية والرعاية الصحية وينص على تجريم التخلي عن الحيوانات المريضة أو المصابة، كما يفرض عقوبات على القتل العمد دون ضرورة.

لكن هذا القانون يواجه إشكاليات خطيرة أهمها ضعف آليات التنفيذ، غياب وحدات شرطية بيطرية متخصصة، وعدم تفعيل دور البلديات في التدخل العاجل، كما أن العقوبات غالبا ما تكون رمزية ولا تردع رغم أن بعض النصوص تجيز غرامات تتراوح بين 200 و5000 دينار وسجن يمكن أن يصل إلى سنة.

أما في التشريعات المقارنة فنجد دولا مثل ألمانيا تعترف في دستورها بـ"كرامة الحيوان" كمبدأ دستوري منذ عام 2002، وسويسرا تعتبر في قانونها أن "كل حيوان له كيان خاص لا يجوز إهداره"، أما فرنسا فقد عدلت قانونها المدني سنة 2015 لتصنف الحيوان بأنه "كائن حي حساس" وليس مجرد ممتلك.

وفي الاتفاقيات الدولية، نجد إعلان باريس 1978 لحقوق الحيوان الذي أعلن في مادته الأولى أن "لكل حيوان حق في الوجود" وفي المادة الرابعة أن "كل عمل لا ضرورة له يتسبب في ألم أو موت لحيوان هو جريمة ضد الحياة".

كل هذا يعيدنا إلى المبدأ الجوهري أن علاقة الإنسان بالحيوان ليست علاقة تملك بل علاقة أمانة والتهاون في هذه الأمانة يقود إلى سلسلة من التجاوزات تبدأ بالحيوان ثم تمتد إلى البيئة ثم إلى الإنسان نفسه لتصل إلى انحلال المعايير التي تقوم عليها المدنية ذاتها، فكيف نؤمن مستقبلا أخلاقيا إذا كنا لا نحمي أرواحا أودعها الله بين أيدينا؟ وكيف نربّي طفلا على الرحمة إذا رأى في الشارع حيوانا ميتا بالإهمال أو مطاردا بالحجارة؟

لهذا، فإن إعادة تأسيس ثقافة الرأفة بالحيوان يجب أن تنطلق من المدرسة وتدعم عبر القانون وتبث في المنابر الدينية وتمارس في البلديات وتراقب في المؤسسات، فالدين أقر والقانون شرّع لكن وحده الضمير قادر على أن ينفذ.

إن الرأفة ليست ترفا لكنها ضرورة حضارية والحيوان ليس كائنا هامشيا بل مرآة لصورة الإنسان ومن لا يرحم من لا يتكلم لن يكون أمينا على من ينطق فالرحمة وحدة وجودية تبدأ من الكلب الجائع وتنتهي بحضارة تتسع قلوبها للكل.

 "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَٰنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَن فِي السَّمَاءِ"
(حديث نبوي صحيح رواه الترمذي)

آخر الأخبار

وفاة كاظم الساهر؟ وراءها سباق اللايكات والدولارات!

وفاة كاظم الساهر؟ وراءها سباق اللايكات والدولارات!

🔥 صفقة على الأبواب وخروج مرتقب: الإفريقي يُنهي خلاف أومبروز... وسيماكولا في مهب الريح!

🔥 صفقة على الأبواب وخروج مرتقب: الإفريقي يُنهي خلاف أومبروز... وسيماكولا في مهب الريح!

🔥 زلزال تشريعي في كرتنا... الأجانب يغزون الملاعب وقرعة البطولة تشتعل!

🔥 زلزال تشريعي في كرتنا... الأجانب يغزون الملاعب وقرعة البطولة تشتعل!

الطرابلسي يفجّر المفاجأة: الإفريقي يُطالب بحق منسي في صفقة شواط... والنجم يُناور!

الطرابلسي يفجّر المفاجأة: الإفريقي يُطالب بحق منسي في صفقة شواط... والنجم يُناور!

ضمير الرحمة الحيوان بين الشرع والقانون

ضمير الرحمة الحيوان بين الشرع والقانون

Please publish modules in offcanvas position.