في منعطف دقيق من التحولات القانونية والسياسية التي تعرفها تونس طرح على الساحة التشريعية مقترح قانوني يهدف إلى تمكين الأزواج من الطلاق بالتراضي أمام عدل إشهاد دون المرور بالمحكمة وهو اقتراح يبدو في ظاهره تبسيطا إجرائيا لكنه في جوهره يعيد طرح سؤال أي مقاربة قانونية نريدها لمجتمع يفترض أن يكون قائما على الحماية لا التفويض؟ وعلى أي أساس نقبل بإخراج القاضي من أكثر الفضاءات حساسية في البناء الأسري؟ ثم ما الذي يتبقى من الدولة حين تتنازل عن دورها في لحظة انهيار الأسرة؟
لقد جاءت مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956 لتؤسس لتصور إصلاحي متقدم تجاوز الكثير من الأنظمة العربية والإسلامية، فأخضعت الروابط العائلية لمقتضيات العدل والمساواة وجعلت من المحكمة سلطة مؤسسة لا مراقبة فقط ومنحت بموجبها المرأة حماية قانونية لا تستند فقط إلى النص لكن إلى وجود قاض يمارس سلطته في الرقابة والتقييم والردع.
بالعودة إلى دستور الجمهورية التونسية لسنة 2022، فإننا نكتشف أن المقترح محل الجدل يهدد عدة فصول مؤسسة للوظيفة الاجتماعية والحمائية للدولة، فـالفصل 5 ينص بوضوح على أن "تونس دولة ذات سيادة تقوم على القانون ويبنى نظامها على أساس العدل والحرية وكرامة الإنسان"، فأين العدل إن تركت الأسر لتفكك نفسها خارج القضاء؟ وكيف تصان الكرامة الإنسانية إن لم تصن في أكثر العلاقات هشاشة؟ وهل يمكن الحديث عن دولة قانون في ظل انسحاب الدولة من رقابة علاقتها الأسرية؟
ثم إن الفصل 21 يقر بأن "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون" وهو نص لا يقبل التأويل عندما يتعلق الأمر بموازين القوى بين الجنسين داخل الأسرة، ففي مجتمعات تتفاوت فيها مستويات الوعي القانوني والقدرة الاقتصادية يصبح "التراضي" أداة خفية لفرض إرادة الأقوى ويفرغ المساواة من محتواها الواقعي، فهل يعقل أن تحمى المرأة بالقانون عند الزواج ثم تترك وحيدة أمام عدل إشهاد عند الطلاق دون ضمانة محايدة؟ وهل يكفي التوقيع على وثيقة لإنهاء علاقة عمرها سنوات ربما كانت فيها الأطراف عرضة للضغط أو الإكراه أو الاستغلال؟
ولعل من أخطر ما يطرحه هذا المشروع أنه يغيب مضمون الفصل 23 الذي يلزم الدولة "بحماية الأسرة وتوفير كل الوسائل التي تتيح لها أداء وظائفها الاجتماعية"، فأين هذه الحماية حين يحول الطلاق إلى إجراء إداري؟ وهل الحماية تعني مجرد التأكد من توقيع الوثيقة أم أنها تقتضي حضور الدولة في شخص القاضي للتثبت من مآلات ما بعد الطلاق؟ ثم كيف نفهم وظائف الأسرة الاجتماعية التي أشار إليها الفصل نفسه إن لم تكن من بين تلك الوظائف الاستقرار، الرعاية، حماية الأطفال، وحفظ كرامة الشريكين بعد الانفصال؟ بل إن المشروع ايضا يضرب جوهر الفصل 47 من الدستور والذي يؤكد على أن "مصلحة الطفل الفضلى تراعى في جميع الإجراءات والقرارات التي تتخذ بشأنه".
فمن هو الضامن لهذه المصلحة إن لم يكن القاضي؟ وهل يعقل أن توكل ترتيبات الحضانة، والنفقة، والزيارة، إلى عقد رضائي قد يحرر في دقائق؟ وهل العدول عن المحكمة يراعي فعلا مصلحة القصر أم يراعي فقط مصلحة الأطراف الراغبة في الطلاق السريع بغض النظر عن التبعات؟
أما الفصل 27 الذي ينص على أن "حق التقاضي مكفول ولكل شخص الحق في محاكمة عادلة" فيبدو وكأنه يناقض نص المشروع رأسا إذ يجعل من القضاء طريقا إلزاميا لحل النزاعات ولو كانت مبنية على التراضي الظاهري فهل الطلاق الذي يفكك التزامات شخصية ومالية وأبوية ليس في ذاته وضعا يستحق مراقبة قاضٍ؟ أم أننا بصدد تدشين مرحلة جديدة من التدبير اللاقضائي لشؤون الأسرة تحت عنوان خادع "التراضي"؟
لذا، فإن ما يراد تسويقه كتسهيل إجرائي يخفي في الواقع تحولا خطيرا في العدالة، من العدالة المؤسسية إلى العدالة الخاصة ومن الحكم القضائي إلى التوثيق الإداري ومن رقابة الدولة إلى حيادها القاتل، ذلك أن القضاء ليس تعقيدا لكنه جوهر الدولة الحديثة والضامن الأول للحقوق غير القابلة للتفاوض، ولا يمكن أن تبرير الكلفة البيروقراطية مهما بلغت التخلي عن الوظيفة الحمائية للقاضي في مسائل ترتبط بالهشاشة الاجتماعية والنفسية والقانونية.
ثم بأي منطق نسلم أن عدل إشهاد مهما علا تأهيله قادر على تقييم المعايير النفسية أو رصد حالات التبعية الاقتصادية أو التثبت من وجود عنف معنوي غير معلن؟ ألا نكون بهذا قد استبدلنا سلطة الدولة بسوق خدمات قانونية لا تخضع لأي رقابة قضائية صارمة؟ وما مصير النساء الريفيات أو غير المتعلمات في مثل هذه السياقات حيث قد يتحول "التراضي" إلى إكراه مغلف لا تملك حتى تسميته؟
بذلك، فإن المضي في هذا المشروع لا يعني فقط التراجع عن مكتسبات مجلة الأحوال الشخصية فقط لكنه يمثل ضربا صريحا لهوية الدولة القانونية التي أرساها دستور 2022، دولة تشرف اساسا على العدالة لا تفوضها وتحمي القاصرين لا تراقبهم وتوازن لا تسجل فقط.
لهذا، فإننا نرفض هذا المشروع رفضا لا لبس فيه ونرى فيه مساسا خطيرا بجوهر الحقوق الدستورية وانحرافا عن إجراءات الدولة الحامية ونكوصا عن معايير العدالة الاجتماعية والجنسانية التي تعد من أرقى ما أنتجته التجربة التونسية بعد الاستقلال.
كما وأن تونس لا تحتاج إلى تقليص صلاحيات القاضي إنما إلى تعزيزه بالوسائل البشرية واللوجستية وتطوير منظومة العدالة الأسرية لتكون أكثر سرعة دون التنازل عن مضمونها، فالحق في الطلاق لا يعني الحق في التخلي عن الحماية والعدالة لا تقاس بمدة الإجراءات بل بعمق الإنصاف ولا إصلاح حقيقي إن تم على حساب من لا صوت لهم في لحظة الطلاق.