أثناء مواكبتنا لفعاليات الدورة الجديدة لملتقى المبدعات العربيات بسوسة التقينا الفنانة التشكيلية والباحثة في الفن اللامرأوي صاحبة مفهوم "الماترياتيست" يسر محمود شاشية وكان لنا معها الحوار التالي:
* بداية ما الذي دفعك إلى نحت مصطلح "الماترياتيست" وماالذي يميز هذه الفاعلة عن غيرها من الفنانات؟
- انبثق مصطلح "الماترياتيست" من حاجة فكرية وجمالية ملحة لسد فراغ اصطلاحي في تسمية نوع من الممارسة الفنية النسوية التي طالما ظلت خارج انساق التمثيل الرسمي والمؤسساتي للفن؛ صغته في ديسمبر 2023 في قلب رحلتي البحثية في باريس حيث تبلور وعيي بأن الكثير من النساء يبدعن بصمت دون أن يعترف بممارستهن كأشكال فنية كاملة.
"ماترياتيست" هو تركيب لغوي من mater (الام باللاتينية الرمز الأول للعطاء والمصفوفة) و artiste (الفنانة بالفرنسية) ليدل على امرأة تحول العناية والرعاية والتنظيم إلى لغة فنية ليست بالضرورة اما بيولوجية؛ بل هي كل امرأة تسكن تفاصيل اليومي وتتخذ من اقتصاد الوجود مادة لتشكيل عالمها الجمالي .الماترياتيست تمارس الفن عبر أفعالها اليومية:
اعداد الطعام وتزيين البيت وترتيب العلاقات واصغاء، واستقبال، مشاركة وهي تجد مراتها في الثقافة الشعبية التونسية "لالة النساء" تلك المرأة المتفطنة، المبتكرة، الحنونة، التي تدبر المتاح بحنكة وتعيد تشكيل الواقع على مبدأ القيام لما هو موجود (faire avec".
هي فنانة لا تحتاج إلى رواق او متحف فضاؤها هو البيت ومادتها الزمن وايقاعها ينبع من الذاكرة الامومية وهي في هذا كله ليست اقل شأنا من مبدعة معاصرة بل تمارس فعلا جماليا يتجاوز الأثر إلى الأثر الحي في الحياة ذاتها.
* ما مجال الممارسة التي يندرج تحته هذا المفهوم؟ واين يتجلى فعلها الفني؟
- يندرج هذا المفهوم ضمن ما اسميه الفن اللامرأوي (l'art invisuel)، وهو فن طليعي لما بعد المعاصرة، لا يقاس بالاثر المرئي ولا يختزل في المنتج بل يتجلى في الفعل الزمني الحي في التفاعل والحضور الإنساني كحامل للفن نفسه. وفي هذا السياق لا تقدم الممارسة الماترياتيستية على هيئة عمل معروض بل تمارس كطقس حي ينفتح على الحياة اليومية ويشتبك معها مباشرة كقصعة الوليمة على سبيل المثال ليست تمثيلا رمزيا ولا مشهدا للعرض بل هي تجربة حسية كاملة حيث يتحول الجسد والزمن والمحيط إلى وسائل تشكيلية تعيد للضيافة معناها الجمالي والانطولوجي وكل تفصيل في هذا الفعل من ترتيب المائدة إلى الايماءة العابرة من استقبال الضيف إلى لحظة الصمت المشتركة هو بمثابة اثر فني حي ناطق بقيم الرعاية والأمومة والعطاء المشترك.
* وهل ترين في الضيافة طاقة فنية؟
- انها اكثر من ذلك، الضيافة عندي هي جذر جمالي وأخلاقي، استيتيقنا الضيافة هي ما يحرك كل فعل فني اقوم به، تقديم الطعام في قصعة الوليمة مثلا لا يعني فقط إطعام الجسد بل هو خطاب مفتوح وسينوغرافيا حية لاعادة ترميم العلاقة مع الاخر انها فن العناية في زمن التفكك.
* ما العلاقة بين هذه الممارسة والذاكرة النسوية؟
- هي علاقة عضوية، تعلمت من امي وجدتي كيف يكون الفعل البسيط فعلا عظيما، كيفية ادارة الوقت وإعداد الطعام وتفصيل الثوب وإصلاح الأشياء بروح فنية لا تدعي الفن. الماترياتيست ليست فقط من تنتج بل هي تعيد للذاكرة قيمها وتترجمها الى افعال يومية ذات بعد جمالي.
* وهل يمكن اعتبار هذه الممارسات مقاومة ثقافية؟
- بالتأكيد، في زمن تهيمن عليه الفردانية والاستهلاك تصبح العودة إلى مهارات الجدات شكلا من المقاومة الناعمة حين نعيد الاعتبار إلى ماهو منزلي ويومي نحن نعيد تشكيل مفاهيم الفن والهوية والعلاقات الاجتماعية، انها مقاومة تمارس بلطف لكنها عميقة التأثير .
* كيف تترجمين الابتكار الاصطلاحي علميا إذن؟
- الاصطلاح هنا ليس ترفا لغويا بل ضرورة معرفية لا يمكن تأسس فكر جديد دون لغة جديدة "الماترياتيست" كمصطلح هو مفتاح لقراءة ممارسة مغفلة من الخطاب الفني السائد وممارسة تطالب بمكانها في تاريخ الفن لا على الهامش بل من الداخل بشروطها و بنسبها الامومي.
* تحدثت كثيرا عن الطقوس اليومية والذاكرة النسائية لكن هل يمكننا التوقف عند الخصوصية التي تميز الماترياتيست من حيث ذكائها التشكيلي؟ وما علاقتها بما عرفته في اللهجة التونسية بلالة النساء؟
- هذا سؤال هام جدا، الماترياتيست ليست فقط فاعلة فنية بل هي كيان ذو ذكاء تشكيلي داخلي ينبثق من المعيش اليومي لا من نظريات جاهزة، هي تشكل واقعها بإبداع يومي وتحول القليل إلى كفاية والبسيط إلى اثر ،في تونس نطلق على هذه المرأة صفة لالة النساء وهي ليست لقبا مجازيا بل توصيف لامرأة ابتكرت في ظروف قاسية شؤونها بحكمة وصاغت جمالها من موارد محدودة.
الماترياتيست تمارس الفن دون اعلان ودون وسائط تقليدية لأنها تبدع من داخل "اقتصاد الموجود" عملها ليس مرتبطا بسوق الفن بل بالحياة ذاتها كل ايماءة منها من طهو إلى ترتيب ومن اصغاء إلى صمت هي فعل تشكيلي يتفاعل مع المحيط ويتجذر في الذاكرة الامومية،انها منجزة صامتة لكنها مؤسسة لثقافة بديلة مقاومة ومشعة في آن واحد .
* وهل هناك بعد فلسفي في هذه الاستيتيقا ؟
- بالتأكيد، كما أشار دريدا وليفيناس الضيافة ليست مجرد فعل كرم بل هي موقف وجودي يتطلب فتح الذات على الغريب دون شروط ،هذه الرؤية هي ما أفعلها في ممارستي،حيث يتحول اعداد الكسكس الجماعي مثلا إلى تمرين على نزع الحدود وبناء مشترك إنساني.
* اخيرا كيف ترين مستقبل هذه المقاربة؟
- أطمح إلى أن تجد هذه الممارسة مكانها ضمن الموروث اللامادي والبحث الأكاديمي وان تدرس كمقاربة فنية لها نسقها النظري وأدواتها الاجرائية لان الماترياتيست ليست فقط أنا بل هي كل امرأة تحول فعل العناية إلى فن وتعيد عبر جسدها وصمتها ترتيب العالم من الداخل.
حاورها منعم التومي