اختر لغتك

المسؤولية المجتمعية في تونس ودور رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى في بناء الدولة والمجتمع 

المسؤولية المجتمعية في تونس ودور رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى في بناء الدولة والمجتمع 

في تونس اليوم لم تعد المسؤولية المجتمعية للمؤسسات الكبرى ورجال الاقتصاد مجرد خيار أخلاقي أو وسيلة دعائية بل تحولت إلى ركيزة أساسية لضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي وحماية السيادة الوطنية، ولم يعد الاقتصاد مجرد أداة للربح لكنه أصبح امتدادا للواجب الوطني حيث يتداخل الالتزام بالمصلحة العامة مع النشاط التجاري لتشكيل شراكة حقيقية بين رأس المال والمجتمع ويصبح كل استثمار وكل مشروع اقتصادي فعلا وطنيا متكاملا يوازن بين مصلحة المؤسسة ومصلحة الدولة والمواطن ويؤسس لنموذج من التنمية يدمج الربح بالمسؤولية والفاعلية الاقتصادية بالعدالة الاجتماعية.

وقد رسخت المنظومة القانونية التونسية هذا المفهوم بوضوح ومنهجية، فجاء القانون عدد 35 لسنة 2018 المؤرخ في 11 جوان 2018 ليحدد دور المؤسسات في التنمية المحلية والمستدامة من خلال تخصيص جزء من أرباحها لدعم المشاريع التنموية في المناطق التي تنشط فيها وخصوصا في الجهات الداخلية الأقل نموا، ويأتي الفصل 12 من دستور الجمهورية التونسية لسنة 2022 ليضيف بعدا سياسيا وحقوقيا حيث يؤكد على التزام الدولة بالعدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات ويجعل من المساهمة المجتمعية التزاما وطنيا يعكس روح العقد الاجتماعي بين الاقتصاد والمجتمع  وفي نفس السياق وفر الأمر الحكومي عدد 1034 لسنة 2020 آليات تنفيذ برامج التنمية بالشراكة بين القطاعين العام والخاص مما يتيح للفاعلين الاقتصاديين الانخراط بفعالية في مشاريع ذات أبعاد اجتماعية وبنية تحتية وخدمية، ومن جانب آخر شجعت مجلة الاستثمار لسنة 2016 (القانون عدد 71 لسنة 2016) على إنشاء صناديق استثمار اجتماعي ومنحت امتيازات جبائية للشركات التي تخلق فرص عمل في المناطق ذات الأولوية التنموية فيما تعمل وزارة الاقتصاد والتخطيط بالتعاون مع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وCONECT على إدراج المسؤولية المجتمعية ضمن مدونة حوكمة المؤسسات العمومية والخاصة لضمان توحيد المعايير وتفعيل أثر هذه الممارسات على التنمية المستدامة.

هذا وتكشف الأرقام الرسمية حجم التحديات بوضوح، إذ يضم سوق الشغل في تونس نحو 3.57 مليون عامل سنة 2025 مع نسبة بطالة تصل إلى 15.9٪ بينما يتركز أكثر من 70٪ من المؤسسات الكبرى في العاصمة والساحل في حين تعاني المناطق الداخلية من ضعف الاستثمار والبنية التحتية رغم أنها تمثل أكثر من 60٪ من مساحة البلاد. وتعكس هذه الفجوة تحديا مباشرا للعدالة الاجتماعية، إذ تشير دراسة المرصد التونسي للاقتصاد سنة 2024 إلى أن أقل من 30٪ من الشركات الكبرى تمتلك برامج منتظمة للمسؤولية المجتمعية وغالبها يقتصر على أنشطة رمزية مثل التبرعات أو الرعاية الثقافية دون استراتيجية طويلة المدى أو تقييم حقيقي للأثر الاجتماعي، ومن هنا يتضح أن أي مساهمة اقتصادية يجب أن تقاس بمدى تأثيرها على التنمية المحلية والعدالة الاجتماعية وليس بمجرد حجم الأموال المستثمرة.

غير أن الطريق ليس سهلا فهناك إشكاليات متشابكة تعيق التقدم أبرزها غياب إطار إلزامي وموحد لتطبيق المسؤولية المجتمعية ما يجعل الالتزام خاضعًا لاجتهاد كل مؤسسة وضعف التنسيق بين الدولة والقطاع الخاص في تحديد الأولويات التنموية وغياب آليات متابعة وتقييم دقيقة، إضافة إلى تراجع الثقة بين المواطن ورجل الأعمال بسبب ضعف الشفافية وتضارب المصالح الاقتصادية والسياسية الذي قد يحوّل بعض المبادرات إلى رمزية أكثر من كونها إصلاحية حقيقية، ويحتاج معالجة هذه التحديات إلى مقاربة متكاملة تربط بين القوانين والتخطيط الاستراتيجي والرقابة الفعلية على النتائج لضمان أن تصبح المسؤولية المجتمعية فعلًا مستدامًا وفاعلًا على الأرض.

ولذلك، فإن الحلول المطروحة يجب أن تكون شاملة ومترابطة تبدأ بتفعيل القانون 35 لسنة 2018 عبر أوامر تطبيقية تلزم المؤسسات الكبرى بتخصيص نسبة لا تقل عن 2٪ من أرباحها السنوية لمشاريع تنموية محلية تحت إشراف لجان جهوية وإحداث هيئة وطنية للمسؤولية المجتمعية لمراقبة وتقييم ونشر تقارير حول أداء الشركات في المجالات الاجتماعية والبيئية، كما يمكن تعزيز الحوافز الجبائية للمؤسسات التي تخلق فرص عمل دائمة أو تستثمر في الجهات ذات الأولوية وربط ذلك بترقيم وطني للالتزام المجتمعي وإدماج التربية على الاقتصاد المسؤول في الجامعات ومراكز التكوين لتعزيز ثقافة المواطنة الاقتصادية منذ الجيل الصاعد، ومن الضروري كذلك تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص عبر اتفاقيات تتيح للمؤسسات الكبرى المشاركة في مشاريع الدولة ذات الطابع الاجتماعي مثل البنية التحتية والتعليم والبيئة والرقمنة والصحة لضمان أن تكون كل مبادرة مؤسسية جزءا من مشروع وطني شامل يعزز المنفعة العامة ويقلل الفوارق الجهوية.

ويأتي دور رجال الأعمال في هذا الإطار بشكل محوري، إذ يمكنهم المساهمة بفاعلية من خلال الاستثمار في تشغيل الشباب والنساء خصوصا في المناطق الداخلية والأكثر تهميشا ما يحد من البطالة ويعزز الاقتصاد المحلي، كما يمكنهم دعم البنية التحتية والخدمات العامة عبر تمويل المدارس والمستشفيات والمشاريع البيئية والرقمية بما يحسن جودة حياة المواطنين ويعزز شعورهم بالعدالة الاجتماعية، ويمكنهم أيضا ترسيخ ثقافة الشفافية والمساءلة من خلال الكشف السنوي عن مساهماتهم وربطها بأهداف قابلة للقياس ما يعزز الثقة بين المواطنين والدولة والقطاع الخاص، كما يمكنهم المشاركة في صياغة السياسات العامة والمساهمة في الشراكات مع الدولة في مشاريع التنمية المستدامة والابتكار الاجتماعي لتصبح مساهماتهم استراتيجية وليست تكملية، وعبر تبني ثقافة الاقتصاد المسؤول داخل شركاتهم يتحول رأس المال من أداة ربحية إلى قوة فاعلة في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المحلية وحماية السيادة الوطنية.
Mezrigui
وفي المحصلة يبقى دور الفاعلين الاقتصاديين والمؤسسات الكبرى في تونس محوريا لنجاح المشروع الوطني في التنمية الشاملة، إذ إن التزامهم ليس خيارا أخلاقيا فحسب بل عنصرا حاسما في تحقيق الاستقرار الاجتماعي ودعم الدولة وبلورة اقتصاد يضع الإنسان أولا، وعندما توجه طاقات المؤسسات الكبرى وخطط رجال الأعمال لخدمة المصلحة العامة تتحول من وحدات ربحية إلى قلاع وطنية تحمي النسيج الاجتماعي وتحصن الدولة من الهشاشة الاقتصادية ويصبح رأس المال الوطني أداة فاعلة للعدالة والتنمية والمواطنة، بهذا الشكل تتجسد المسؤولية المجتمعية كفعل متكامل يربط بين القانون والاقتصاد والسياسة في بوتقة واحدة لتصبح التنمية فعل انتماء حقيقي لا مجرد حساب ربح ويصبح رجال الأعمال شركاء فعليين في بناء الدولة والمجتمع على حد سواء.

آخر الأخبار

المسؤولية المجتمعية في تونس ودور رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى في بناء الدولة والمجتمع 

المسؤولية المجتمعية في تونس ودور رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى في بناء الدولة والمجتمع 

وادي مليز تتزين بالوردي: يوم تحسيسي تحت شعار "افحص اليوم لتحيا غدا" للتوعية بسرطان الثدي

وادي مليز تتزين بالوردي: يوم تحسيسي تحت شعار "افحص اليوم لتحيا غدا" للتوعية بسرطان الثدي

ندوة حول التعاون الضريبي الدولي في ضوء النظام الضريبي العالمي الجديد

ندوة حول التعاون الضريبي الدولي في ضوء النظام الضريبي العالمي الجديد

نابل تستعد لماراطون "القلوب الشجاعة": أكثر من 1000 متسابق يشاركون في نسخة 2025 للتوعية بأمراض القلب والشرايين

نابل تستعد لماراطون "القلوب الشجاعة": أكثر من 1000 متسابق يشاركون في نسخة 2025 للتوعية بأمراض القلب والشرايين

أزمة الرواتب تهز جامعة الكرة التونسية… أعوان ورابطات ينتظرون مستحقاتهم بينما بعض المسؤولين يضمنون منحة السفر

أزمة الرواتب تهز جامعة الكرة التونسية… أعوان ورابطات ينتظرون مستحقاتهم بينما بعض المسؤولين يضمنون منحة السفر

Please publish modules in offcanvas position.