اختر لغتك

اللغة العربية بين الهوية اللسانية والأعراف الاجتماعية

اللغة العربية بين الهوية اللسانية والأعراف الاجتماعية

في إطار فعاليات افتتاح السنة الجامعية، نظم مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي محاضرة افتتاحية ألقاها الأستاذ الدكتور صالح بن رمضان تحت عنوان: "اللغة العربية بين الهوية اللسانية والأعراف الاجتماعية"، وقد شهدت هذه المحاضرة حضورا متميزا من الأكاديميين والباحثين وطلبة الدراسات العليا ما أتاح منصة فكرية متقدمة لتبادل الرؤى حول المكانة الاستراتيجية للغة العربية في صوغ الهوية الثقافية والاجتماعية ودورها المحوري في تأطير الفكر العربي وإنتاج المعنى.

انطلقت المحاضرة من تأكيد جوهري مفاده أن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة للتواصل اليومي بل هي نظام لغوي متكامل يتقاطع مع الوعي الجمعي والتجربة الثقافية والتاريخية للأمة، فاللغة في هذا الإطار تتجاوز وظيفتها التعبيرية الضيقة لتصبح وعاء للفكر ومرآة لتجارب الشعوب وقناة للحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية عبر الأجيال، وأوضح الأستاذ بن رمضان أن أي دراسة علمية دقيقة للغة العربية تستلزم التعامل مع مستوياتها الصوتية والصرفية والدلالية والاجتماعية باعتبارها مستويات متداخلة إذ أن كل مستوى يؤثر في الآخر ويعكس في الوقت نفسه علاقات اجتماعية وثقافية دقيقة ومتسقة.

وأكد المحاضر أن الهوية اللسانية للغة العربية تشكل أحد أعمدة الهوية الحضارية للشعوب الناطقة بها فهي تعكس تاريخها وأدبها وفكرها وفلسفتها، كما أنها مرآة لتفاعل المجتمع مع البيئة والتاريخ والتحولات الاجتماعية، ورغم ثبات الجذور التاريخية للغة فإنها تمتلك قدرة فائقة على الامتصاص والتكيف مع المستجدات الاجتماعية والثقافية مما يفسر قدرتها على البقاء متجددة ومستقرة في آن واحد مع الحفاظ على المعاني الجوهرية للأمة.

ومن خلال تحليل البنية الصرفية والأوزان في اللغة العربية أبرز الأستاذ بن رمضان أن الأوزان الصرفية ليست أنماطا لفظية جامدة بل هي منظومات دلالية منهجية قادرة على توليد المعنى، فكل وزن صرفي يحتوي على مجموعة من الدلالات التي تعكس العلاقات الاجتماعية والنفسية والثقافية وعلى سبيل المثال يدل الفعل "فعل" على التكثير أو المبالغة بينما يشير "استفعل" إلى طلب الفعل أو التوجّه نحوه، ويعبّر "انفعل" عن الانفعال الذاتي أو التغير الداخلي للفعل، هذه التحولات الصرفية لا تحدد بنية الكلمة فحسب بل توجه مدلولها في السياق الاجتماعي والثقافي فتتحول الأوزان الصرفية إلى أدوات لفهم السلوك الإنساني والتفاعل الاجتماعي وليس مجرد أشكال لغوية سطحية.

 

وقد قدم الأستاذ أمثلة مستمدة من التراث العربي مثل الأوزان التي استعملها ابن جني وابن فارس في كتاباتهما موضحا كيف ربطت الدراسات بين الشكل الصرفي والفعل الدلالي بما يكشف عن "المقابلة الصرفية" التي تبرز العلاقة المنهجية بين الصيغة والبنية الدلالية للفعل، وتبين من ذلك أن التحولات في البنية الصرفية تؤدي بالضرورة إلى تحول في المجال الدلالي ما يعكس قدرة اللغة العربية على توليد معانٍ دقيقة ومرنة ضمن نسقها الداخلي.

ومن زاوية اجتماعية أشار إلى أن اللغة تتفاعل مع الأعراف الاجتماعية والثقافية لتشكيل المعاني وفق معايير اجتماعية متفق عليها تعكس القيم والممارسات الثقافية، وهذا يفسّر التباين بين الفصحى واللهجات المحلية إذ تعكس كل لهجة طبيعة التفاعل الاجتماعي ونمط التفكير الثقافي في محيطها، وعليه يصبح التفاعل بين الصيغة الصرفية والسياق الاجتماعي قاعدة لفهم كيفية عمل اللغة في الواقع وإنتاج المعنى في السياقات المتعددة.

وعلى المستوى المقارن أوضح أن قدرة اللغة العربية على الإنتاج الدلالي المنهجي مقارنة ببعض اللغات الأخرى حيث توفر الأوزان الصرفية العربية نظاما متكاملا لتوليد الدلالات من الجذر ذاته، بينما تعتمد لغات أخرى على السياق أو إضافات نحوية خارجية لتوليد المعنى، هذا النظام يجعل اللغة العربية قابلة للابتكار الداخلي ويجعل أي تغيير في الصرف يعكس تحولا دلاليا منهجيا وليس مجرد تبديل شكلي.

كما تناول أيضا التحديات المعاصرة التي تواجه اللغة العربية في ظل التحولات الرقمية والعولمة اللغوية، مشددا على أن استمرار اللغة واستدامتها يتوقف على الوعي اللغوي والتعليم والبحث العلمي والممارسة الثقافية الفاعلة، فاللغة التي تفقد حضورها في مجالات المعرفة والإبداع العلمي معرضة للضعف والانحسار بينما اللغة التي تحافظ على حضورها في العلوم والفكر والثقافة تظل حية ومتجددة.

واختتمت المحاضرة بالتأكيد على أن المستقبل اللغوي للعربية يرتبط بتحقيق توازن دقيق بين الأصالة والانفتاح وبين الحفاظ على الجذر اللغوي والانخراط الواعي في التحولات العالمية، فاللغة العربية ليست مجرد أداة للتواصل بل هي البيت الرمزي للهوية ووعاء الفكر ومخزون التجربة الثقافية والحضارية ووسيلة لبناء المعنى وربطه بالوعي الاجتماعي والتاريخي والثقافي.

وقد تميزت المحاضرة بقدرتها على الدمج بين الرؤية الأكاديمية العميقة والتحليل الرصين لواقع اللغة الحقيقي في تدريس واستخداماتها في الحياة العادية  لتقديم صورة شاملة للغة العربية كمجال للتفكير والتأويل وكمكون أساسي للهوية والوعي الاجتماعي، فاللغة العربية بمرونتها واستقرارها وقدرتها على إنتاج المعنى من داخل بنيتها تثبت أنها ليست إرثا تاريخيا جامدا بل نظام حي قادر على مواجهة التحولات الاجتماعية والثقافية والتقنية والمحافظة على مكانتها كأداة معرفية وثقافية حيوية.

آخر الأخبار

اصدارات: المجموعة الشعرية "الديوان التافه" لوليد السبيعي.. لاول مرة ديوان شعري عن التفاهة بجمالية ابداعية

اصدارات: المجموعة الشعرية "الديوان التافه" لوليد السبيعي.. لاول مرة ديوان شعري عن التفاهة بجمالية ابداعية

النادي الإفريقي: وعود انتخابية تتبخر... والطرابلسي يدخل في مواجهة مفتوحة مع جماهيره

النادي الإفريقي: وعود انتخابية تتبخر... والطرابلسي يدخل في مواجهة مفتوحة مع جماهيره

اللغة العربية بين الهوية اللسانية والأعراف الاجتماعية

اللغة العربية بين الهوية اللسانية والأعراف الاجتماعية

قابس: أكثر من 20 تلميذاً يُصابون بالاختناق بسبب تسرّب غازي جديد

قابس: أكثر من 20 تلميذاً يُصابون بالاختناق بسبب تسرّب غازي جديد

أسامة الشريمي يشعل وسط الإفريقي في أول ظهور ويمنح الفريق صدارة مؤقتة

أسامة الشريمي يشعل وسط الإفريقي في أول ظهور ويمنح الفريق صدارة مؤقتة

Please publish modules in offcanvas position.