اختر لغتك

من بنزرت إلى غزة - استمرارية الذاكرة التحررية ومبدأ السيادة في الوجدان التونسي

من بنزرت إلى غزة - استمرارية الذاكرة التحررية ومبدأ السيادة في الوجدان التونسي

من بنزرت إلى غزة - استمرارية الذاكرة التحررية ومبدأ السيادة في الوجدان التونسي

بمناسبة إحياء ذكرى الجلاء المجيدة، احتضنت مدينة بنزرت ندوة فكرية نظمتها جمعية صيانة المدينة ومنتدى مقاصد حملت عنوانا يختزل المسافة بين التاريخ والواقع من بنزرت إلى غزة، معارك التحرير في المنظور الأممي، لم يكن اللقاء مجرد احتفال بذكرى وطنية بل لحظة وعي جماعي تستعاد فيها قيم النضال ومفاهيم السيادة لتصبح الذاكرة التونسية منطلقا لتأمل الحاضر ومساءلة الضمير الإنساني في زمن تتجدد فيه معاني الاحتلال وتتشابك فيه قضايا الشعوب، فالتاريخ في جوهره ليس ماضيا يروى بل طاقة حية تبعث الإيمان بأن الحرية لا تعرف زمانا واحدا ولا أرضا بعينها وأن ما جرى في بنزرت بالأمس يتردد صداه اليوم في غزة.

في هذا الإطار، قدم الصحفي والخبير الأممي الأستاذ نور الدين المازني مداخلة عميقة في معناها ومحمولها أعاد فيها قراءة معركة بنزرت سنة 1961 لا بوصفها واقعة عسكرية فحسب بل حدثا مؤسسا في مسار السيادة التونسية، فحين اختار التونسيون حينها مواجهة آخر جيوب الاستعمار الفرنسي لم يكونوا يدافعون فقط عن تراب الوطن بل عن كرامة أمة أرادت أن تكتب تاريخها بدماء أبنائها لا بإملاءات الآخرين، وكانت بنزرت أكثر من معركة كانت بيانا سياديا يعلن أن الاستقلال الشكلي لا يرضي الشعوب الحرة وأن الكرامة لا تشترى بصفقة بل تفتك بالإرادة والوحدة والصبر، ومن هذا المعنى تحديدا برزت بنزرت كرمز خالد في الوجدان التونسي لا لأنها أنهت استعمارا عسكريا فحسب بل لأنها دشنت وعيا جديدا بضرورة امتلاك القرار الوطني المستقل.

ومن رحم تلك الذاكرة، انبثقت المقارنة الحية التي طرحتها الندوة بين بنزرت وغزة، بين معركة الأمس في شمال إفريقيا ومعركة اليوم في قلب المشرق العربي، فالقضيتان رغم اختلاف الجغرافيا تتقاطعان في جوهر واحد هو مقاومة الاحتلال والتمسك بالحق في تقرير المصير، إذ إن الشعوب التي ذاقت طعم الهيمنة تعرف أن الحرية لا تمنح من فوق بل تنتزع من رحم المعاناة، ومن هنا فإن غزة ليست حالة معزولة بل امتداد لمعنى بنزرت نفسها إذ تتجلى فيها اليوم الإرادة ذاتها التي جعلت من تونس بلدا سيدا حرا فكما واجه التونسيون في الخمسينات والستينات قوى الاستعمار بصلابة الإيمان بالحق يواجه الفلسطينيون اليوم آلة الاحتلال بنفس الروح روح الصمود التي لا تقهر والإصرار على أن العدل لا يسقط بالتقادم.

هذا وقد عمق المتحدثون في الندوة النقاش حول البعد الأممي لمعركة التحرر فالحركات الوطنية في نظرهم ليست قضايا داخلية تخص دولة بعينها بل حلقات مترابطة في تاريخ إنساني واحد، فمن تونس إلى الجزائر ومن جنوب إفريقيا إلى فلسطين ظلت فكرة التحرر تنسج خيوطها عبر العصور كقانون طبيعي لكرامة الإنسان، ولئن نصّ ميثاق الأمم المتحدة منذ سنة 1945 على حق الشعوب في تقرير مصيرها فإن الواقع الدولي كثيرا ما خان هذا المبدأ حين خضع لموازين القوى والمصالح الضيقة، ومع ذلك يبقى التاريخ شاهدا على أن الشعوب مهما طال ليل الاستعمار تظل قادرة على إعادة تعريف نفسها ومكانها في العالم متى تمسّكت بعدالة قضيتها، وهكذا بدا واضحا في مداخلات الندوة أن معركة غزة ليست فقط صراعا على أرض بل اختبارا للضمير الأممي ومدى صدق إنسانيته.

وفي سياق متصل، جاء الحديث عن موقف تونس من القضية الفلسطينية ليؤكد أن التاريخ لا ينفصل عن الحاضر وأن المواقف الأصيلة لا تتبدل بتبدل الظروف، فقد أكدت في ردي على سؤال سعادة سفير المملكة العربية السعودية السابق حول موقف رئيس الجمهورية من القضية الفلسطينية أن الموقف التونسي واضح وثابت منذ الاستقلال لأنه نابع من عمق الهوية الوطنية التي لا تفصل بين السيادة الوطنية والحرية الإنسانية، ففي عيد الجلاء لسنة 2025 وفي كل مناسبة يجدد رئيس الجمهورية قيس سعيّد هذا الموقف بوضوح قاطع مبينا أن جلاء الاستعمار عن تونس لا يكتمل ما دام الاحتلال جاثمًا على أرض فلسطين وأن الحرية لا تتجزأ بين الشعوب وتلك ليست عبارة دبلوماسية بل خلاصة لمسار تاريخي يرى في نصرة فلسطين جزءا من استكمال معركة الجلاء ذاتها لأن التحرر الحقيقي لا يكون فرديا بل جماعيا يشمل كل أرض يسكنها الظلم.

ومن هنا يتضح بشكل جلي أن الموقف التونسي ليس عاطفة ظرفية بل التزام مبدئي يقوم على ثلاث ركائز متكاملة الأولى دبلوماسية إذ تواصل تونس دفاعها عن فلسطين في المحافل الدولية متمسكة بشرعية القرارات الأممية وبحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، والثانية أخلاقية تنبع من وجدان الشعب التونسي الذي لم ينفصل يومًا عن قضايا الأمة فظل صوته في الشوارع والميادين مرآة لضمير عربي حر، أما الثالثة فهي تاريخية لأن تونس التي خاضت معركة بنزرت دفاعا عن سيادتها تعرف أن دعم فلسطين ليس مجاملة بل امتداد لجوهر تجربتها الوطنية فكلما وقفت تونس مع فلسطين فإنها في الحقيقة تدافع عن نفسها وعن المعنى الأصيل لجلائها وعن حقها في أن تبقى وطنا يناصر القيم لا المصالح.

وقد اختتمت الندوة بجملة توصيات حملت بعدا وطنيا وإنسانيا دعت إلى ترسيخ الوعي التاريخي كركيزة لبناء الحاضر وإلى حماية الذاكرة الجماعية من محاولات التزييف والنسيان، فالذاكرة ليست حنينا إلى الماضي بل سلاح منيع ضد الانكسار إذ بها تحافظ الأمم على هويتها وتستمد من تضحياتها قوة مواجهة المستقبل، كما أكد المشاركون على ضرورة استمرار التضامن العربي والأممي مع الشعب الفلسطيني وتعزيز ثقافة المقاومة الفكرية التي تسبق كل مقاومة ميدانية لأن الكلمة الحرة هي الخط الأول في معركة الوعي.

وفي نهاية اللقاء، غمر الحاضرين شعور بالفخر والاعتزاز إذ بدت بنزرت من جديد جسرا رمزيا يصل بين الذاكرة التونسية ووجع غزة، بين معركة الجلاء ومعركة البقاء، بين السيادة الوطنية والحرية الأممية وكأن التاريخ أعاد صوته ليقول إن الحرية لا تُمنح لمن يطلبها بل لمن يصنعها وإن كل أرض تقاوم من أجل كرامتها إنما تناضل باسم الإنسانية جمعاء، فمن بنزرت إلى غزة تمتد خيوط النور ذاتها تؤكد أن مقاومة الاحتلال ليست خيارا بل قدر الشعوب الحرة حين ترفض أن تهزم.

آخر الأخبار

تونس والبرازيل في ليل... وسؤال يُطرح: لماذا لا تُلعب المباراة في رادس؟

تونس والبرازيل في ليل... وسؤال يُطرح: لماذا لا تُلعب المباراة في رادس؟

رحمة المرساني إشراقة فنية تونسية تتجاوز حدود الموهبة لتصوغ الفن والفكر والانتماء الوطني في تجربة واحدة متكاملة  

رحمة المرساني إشراقة فنية تونسية تتجاوز حدود الموهبة لتصوغ الفن والفكر والانتماء الوطني في تجربة واحدة متكاملة  

النادي الإفريقي يقاضي العربي الكويتي بسبب مستحقات صفقة سيماكولا

النادي الإفريقي يقاضي العربي الكويتي بسبب مستحقات صفقة سيماكولا

هجمات سيبرنية في تصاعد بتونس: ارتفاع بنسبة 30% وتحذيرات من الأخطاء البشرية

هجمات سيبرنية في تصاعد بتونس: ارتفاع بنسبة 30% وتحذيرات من الأخطاء البشرية

25 ألف تذكرة لجماهير النادي الإفريقي في قمة رادس أمام الاتحاد المنستيري

25 ألف تذكرة لجماهير النادي الإفريقي في قمة رادس أمام الاتحاد المنستيري

Please publish modules in offcanvas position.