لليوم السادس على التوالي، يواصل دكاترة تونس المعطلون عن العمل اعتصامهم المفتوح أمام مقر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في مشهد يجسد أزمة عميقة تعصف بمنظومة التعليم العالي والبحث العلمي وتجربة مؤلمة لطالبي العلم الذين أمضوا سنوات طويلة في الدراسة والبحث دون أن يجدوا فرصا حقيقية لتوظيف كفاءاتهم، انطلق هذا الاعتصام يوم الإثنين 11 أوت 2025 بمشاركة نحو 70 باحثا إلا أن التقديرات تشير إلى أن عدد حاملي شهادة الدكتوراه العاطلين عن العمل يراوح بين 8,000 و12,000 شخص وهو ما يعكس فجوة هائلة بين احتياجات الباحثين ورؤية الدولة لإدارة رأس المال البشري ويطرح تساؤلات جوهرية حول فعالية السياسات الحكومية في إدارة الموارد البشرية وتحقيق التنمية المستدامة.
ورغم وضوح حجم المشكلة، تلتزم وزارة التعليم العالي الصمت بشأن الشغورات المتاحة وآليات التوظيف وهو ما يثير استياء الباحثين ويترك شعورا بالغبن لاسيما حين يتم تلبية مطالب قطاعات أخرى بصورة أسرع وأوضح، ومن هنا يتأكد لنا بأن البطالة بين حملة الشهادات العليا ليست مجرد قضية شخصية أو قطاعية لكنها مسألة وطنية تمس كرامة المجتمع بأسره وتستدعي معالجة شاملة تتجاوز النقاشات الشكلية والاجتماعات الروتينية لتشمل استراتيجيات طويلة الأمد لإصلاح منظومة التعليم العالي وربطها بسوق العمل الفعلي بما يحقق العدالة الاجتماعية ويمنع هدر الكفاءات الوطنية الثمينة.
وفي المقابل، تصر الوزارة على اعتماد عقود التشغيل الهشة والمؤقتة لتغطية الشغورات في الجامعات وهو ما يكرس التهميش لهذه الفئة من الباحثين ويترك أثرا سلبيا مباشرا على جودة التعليم والبحث العلمي، إذ يحرم الباحثون من استثمار سنوات من الدراسة والخبرة في مشاريع بحثية طويلة الأمد، كما تفقد الجامعات كفاءاتها القادرة على تطوير برامج علمية متقدمة وتقديم حلول مبتكرة للمشكلات الوطنية، وقد تم انتقاد هذه السياسية من قبل العديد إذا انه لابد من فتح حوار جاد ومسؤول من قبل الوزارة مع ممثلي الدكاترة وإقرار حلول عاجلة تعيد لهم حقوقهم كاملة ووضع حدا لمعاناتهم الطويلة التي امتدت أحيانا لعشر سنوات أو أكثر وهو ما يعكس إخفاق السياسات العامة في استثمار رأس المال الفكري بشكل فعال ويشير إلى ضرورة مراجعة شاملة للخطط الحكومية لضمان توظيف هذه الكفاءات في خدمة التنمية الوطنية وتعزيز مكانة تونس في البحث العلمي على المستوى الإقليمي والدولي.
وتؤكد الأرقام الرسمية حجم الخلل البنيوي في سوق العمل، إذ بلغ معدل البطالة بين خريجي التعليم العالي 24% في الربع الثاني من عام 2025 مقارنة بـ23.5% في الربع الأول مع تفاوت واضح بين الجنسين حيث وصل معدل البطالة بين النساء إلى 31.3% مقابل 14.2% بين الرجال، كما تشير الدراسات إلى أن تونس تخرج سنويا نحو 70,000 خريج بينما لا يستوعب السوق سوى نسبة ضئيلة منهم ما يؤدي إلى فائض مستمر من الباحثين العاطلين وارتفاع البطالة في المناطق الداخلية ويزيد من الهجرة غير المنظمة للكفاءات نحو الخارج وبالتالي تصبح الأزمة ليست مجرد مسألة تعليم أو توظيف لكنها تهديدا استراتيجيا لمستقبل البلاد الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء ويستدعي تبني سياسات وطنية تحول الكفاءة العلمية إلى قوة إنتاجية فاعلة تضمن النمو وتحد من الفقر والاضطرابات الاجتماعية المحتملة.
وفي هذا السياق، تتطلب الحلول معالجة متكاملة وشاملة، تبدأ بإحداث 5,000 خطة انتداب استثنائية مخصصة لحاملي شهادة الدكتوراه لتوفير فرص عمل مباشرة لهذه الفئة وهو ما يمثل خطوة أولى نحو معالجة الفجوة القائمة، كما يجب أن يكون الإصلاح الشامل للبرامج التعليمية أولوية ببحيث تتوافق مع احتياجات السوق خاصة في المجالات العلمية والتقنية التي تشكل رافدا رئيسيا للتنمية المستدامة، كما ينبغي أن تتضمن خطط التعليم العالي برامج تدريبية تطبيقية تعزز مهارات الطلاب البحثية والفنية لتكون جاهزة لسوق العمل ومتطلبات الاقتصاد الحديث، كما ينبغي أيضا تعزيز الاستثمار في البحث العلمي والابتكار وتوفير حوافز للمشاريع البحثية التي تسهم في تحويل المعرفة إلى إنتاج اقتصادي ملموس وهو ما يخلق بيئة تحفز الباحثين على الابتكار وتقلل من هدر الموارد البشرية.
بالإضافة إلى ذلك، يمثل تعزيز الشفافية والمساءلة عبر إنشاء منصة رقمية موحدة للإعلانات عن الشغورات وضمان عملية انتداب شفافة وعادلة خطوة أساسية لإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع الأكاديمي وهو ما يضمن معالجة الأزمة على المدى الطويل ويحقق تكافؤ الفرص ويحول الاعتصامات والاحتجاجات إلى محرك لإصلاح مؤسسي شامل، وبما أن هذه الأزمة تجمع بين أبعاد تعليمية، اقتصادية، واجتماعية، فإنه من الضروري الربط بين هذه العوامل جميعا لضمان حلول مستدامة، كما يجب مراعاة التأثيرات المترتبة على هجرة الكفاءات وتراجع الابتكار وتآكل رأس المال الفكري للبلاد إذ إن أي تقصير في هذه الجوانب قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة أكثر فأكثر؛ وعليه، فإن معالجة هذه الأزمة تتطلب تكاملا بين السياسات التعليمية، فرص العمل، ودعم البحث العلمي مع وضع آليات متابعة دقيقة لضمان التطبيق الفعلي لكل الإجراءات المقترحة.
إن استمرار تجاهل مطالب هؤلاء الباحثين يعد إهدارا فادحا للموارد البشرية المؤهلة ويزيد من احتمالية تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، كما يضع الدولة أمام اختبار حقيقي لقدرتها على إدارة المستقبل وإيجاد حلول فعالة تعكس احترام الحقوق الدستورية والالتزامات الدولية، فاعتصام الدكاترة ليس مجرد احتجاج على البطالة لكنه صرخة ضد منظومة تهمش أصحاب الشهادات العليا وتضيع رأس المال الفكري للبلاد وتضعف القدرة الوطنية على الابتكار ومواكبة التحولات العالمية، وبينما يواصل الباحثون احتجاجهم يظل السؤال المحوري الذي يفرض نفسه هل ستتمكن الدولة من تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لإصلاح منظومة التعليم العالي وضمان تكافؤ الفرص لكل كفاءة وطنية أم ستظل هذه الفجوة شاهدة على إخفاق السياسات الحكومية في إدارة المستقبل وتستمر هذه الكفاءات في الهدر والتهميش؟