تمر اليوم أربعون سنة على واحدة من أحلك الصفحات في التاريخ التونسي والعربي الحديث، مذبحة حمام الشط التي وقعت في غرة أكتوبر 1985 عندما شنت القوات الجوية الصهيونية الغاشمة غارة على ضاحية حمام الشط جنوب العاصمة تونس حيث كان مقر القيادة العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أطلق على العملية اسم «الساق الخشبية» وقد جاءت في إطار مطاردة المحتل لقيادات الثورة الفلسطينية بعد نزوحها من لبنان وأسفرت عن استشهاد خمسين فلسطينيا وثمانية عشر تونسيا وإصابة أكثر من مئة شخص بالإضافة إلى تدمير المقرات المستهدفة وخسائر مادية تقدر بحوالي 8.5 مليون دولار أمريكي.
هذا واستهدفت الغارة مقر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي نجا بأعجوبة بعد مغادرته المكان قبل نصف ساعة من القصف إلى جانب مقر الحرس الرئاسي والإدارة العسكرية والإدارة المالية وعدد من مساكن الموظفين والمرافقين، وقد استخدمت في الهجوم طائرات مقاتلة من طراز "إف-15" يقدر عددها بين ست إلى ثماني طائرات ما عكس التخطيط الدقيق للعملية وأبعادها الاستراتيجية.
هذا الحدث لم يكن مجرد اعتداء عسكري بل كان انعكاسا لتشابك المصالح الإقليمية والدولية حيث أطلقت الغارة نقاشات حادة حول شرعية التدخل العسكري في أراض ذات سيادة والحدود القانونية لمفهوم "الرد العسكري" خارج إطار الدولة، وقد أثارت العملية إدانات واسعة من تونس والدول العربية ومنظمات حقوقية دولية.فيما بررت الكيان المغتصب الهجوم على أنه إجراء أمني ردا على اعتداءات فلسطينية سابقة مما وضع الملف تحت مجهر القانون الدولي والسياسة العالمية.
الحصيلة المباشرة للغارة كانت مدمرة على المستوى الإنساني والمادي من عشرات القتلى والجرحى إلى جانب تدمير منشآت المنظمة والمرافق المحيطة بها، ومع ذلك فإن بقاء بعض القيادات على قيد الحياة ومنها عرفات أضفى بعدا دراميا على الروايات الإنسانية والشهادات الشخصية التي توثق الحدث وأكد أن التاريخ ليس مجرد أرقام بل تجارب وألم ومقاومة.
على الصعيد الاجتماعي والسياسي، أصبحت مذبحة حمام الشط علامة فارقة في الذاكرة الوطنية التونسية والفلسطينية إذ تحول الحدث إلى رمز للتضحيات والصمود أمام العدوان وأداة لتعليم الأجيال الجديدة أهمية التوثيق المستمر للحوادث التاريخية، والالتزام بالحق والعدالة بعيدا عن الانتقام أو العنف، فالذاكرة الوطنية أصبحت بمثابة جسر بين الماضي والحاضر، يربط بين التاريخ وبين ضرورة الحفاظ على السيادة والكرامة الوطنية.
ومن منظور قانوني وسياسي، تركت الغارة آثارا عميقة على السياسات الإقليمية والدولية حيث أبرزت الحاجة إلى تعزيز آليات المساءلة الدولية والالتزام بالقنوات القانونية والدبلوماسية قبل اللجوء إلى القوة العسكرية لما في ذلك من حماية لاستقرار المنطقة ومنع تصعيد النزاعات.
وفي سياق الحفاظ على ذاكرة الحدث، كان لتوثيق الصور والشهادات والأرشيف الصحفي دور محوري في نقل الوقائع بدقة وموضوعية ما ساهم في إثراء الرواية التاريخية وضمان عدم طمس الحقائق، كما شكلت هذه الوثائق مادة تعليمية وأداة ضغط سياسي واجتماعي لتأكيد حقوق الضحايا والمجتمع في كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين.
كذا ظلت ذكرى حمام الشط بعد مرور أربعين عاما تذكيرا حيا بأن التاريخ لا يمحى وأن الضمير الإنساني والعدالة يظلان نورا في وجه الظلم، كما بقيت الدعوة مفتوحة للأجيال القادمة للعمل على تعزيز العدالة والوعي وتوثيق الحقائق ونقل هذه القيم من خلال التعليم والمجتمع المدني لضمان أن تصبح الذكرى قوة بناءة تحمي المستقبل.
ختاما، أربعين عاما قد مرت لكنها لم تمحُ الألم ولا تضحيات الضحايا بل حولت الحدث إلى درس خالد في الصمود والمقاومة مؤكدة أن العمل من أجل الحقيقة والعدالة هو السبيل الوحيد لتكريم الذكرى وحماية الأجيال القادمة.