يمثّل اليوم العالمي لحقوق الطفل الموافق لـ20 نوفمبر محطة مهمة لإعادة تقييم الجهود المبذولة من أجل حماية الأطفال ووقفة صادقة لمراجعة واقع الطفولة في تونس والعالم ليس باعتباره مجرد حدث رمزي بل كفرصة لمساءلة الدولة والمجتمع المدني حول مدى الالتزام بحقوق الطفل، إذ تبقى هذه المناسبة دعوة لكل المتدخلين للقيام بواجبهم تجاه الطفل فنجاح المسار يتطلب مشاركة فعلية ومسؤولة من جميع مكونات المجتمع المدني.
تونس، منذ إصدار مجلة حماية الطفل بموجب القانون عدد 92 لسنة 1995 التي دخلت حيّز التنفيذ في 11 جانفي 1996 أرست إطارا قانونيا متقدما يضع مصلحة الطفل الفضلى فوق كل اعتبار ويضمن له الحق في الهوية منذ الولادة وحق الاسم والجنسية واحترام الخصوصية داخل الأسرة مع حماية خاصة للأطفال ذوي الإعاقة من خلال ضمانات طبية وتعليمية وتأهيلية تمكنهم من الاندماج الفعلي في المجتمع، كما ينظم القانون أوضاع "الطفل المهدد" و"الطفل الجانح" عبر محاكم أحداث مختصة وقضاة مدربين وآليات للمصالحة والوساطة مع الدور المحوري لمندوبي حماية الطفولة في الإبلاغ والمتابعة والتنسيق.
كما جاء القانون التوجيهي عدد 83 لسنة 2005 لتحديد الحقوق الأساسية للأطفال ذوي الإعاقة سواء في التعليم أو التأهيل أو الرعاية الصحية وإن بقي التطبيق الميداني بحاجة إلى تطوير ملحوظ خصوصا في المدارس العمومية التي لا تزال تفتقر في أغلبها لقاعات متخصصة قادرة على احتضان الأطفال ذوي التوحد وبقية الإعاقات، فحضورهم لساعات داخل القسم لا يحقق مكاسب تعليمية حقيقية، لذا وجب التنصيص على ضرورة توفير قاعات ومرافقين مختصين وتمكين الأطفال من تعلم مهارات حياتية وفق خطط تربوية فردية.
ومع مرور السنوات وتغير البنية الاجتماعية، ظهرت الحاجة إلى مراجعة شاملة للنص الأصلي وهو ما أدى إلى إصدار نسخة محدثة من "مجلة حماية الطفل" لسنة 2024 والتي تمتد على 162 صفحة وكذلك مشروع تعديل سنة 2020 الذي يشمل تعريفات دقيقة للطفل "الضحية" و"الطفل الشاهد" وتعزيز آليات المرافقة القانونية والنفسية أثناء التحقيق والمحاكمة واقتراح إنشاء خلايا تدخل سريع بمكاتب مندوبي حماية الطفل في حالات الخطر، إضافة إلى تأكيد التنسيق بين وزارات العدل والشؤون الاجتماعية والصحة والتربية والجمعيات المختصة لضمان تدخل متكامل وفعال، كما توصي بعض المبادرات بتوسيع هذه المنظومة نحو تنقيح "مجلة حقوق الطفل" لتشمل الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية بما يتماشى مع المعايير الدولية وتواكب العصر.
أما على الصعيد الاجتماعي والصحي، تكشف بيانات اليونيسف عن معدل وفيات الأطفال دون الخامسة يقارب 13 لكل ألف ولادة حية مع تفاوت واضح بين الجهات الحضرية والريفية ما يستدعي تحسين خدمات الأم والطفل، كما يشير الواقع إلى أن الانقطاع المدرسي بلغ نحو 108 آلاف تلميذ فيما تقدر نسبة الأطفال العاملين حوالي 4% خاصة في المناطق الريفية مع انتشار بعض أشكال عمل الأطفال الخطيرة مثل التسول والأعمال الشاقة وهي ممارسات تدخل ضمن "أسوأ أشكال عمل الأطفال"، وبرامج الدعم مثل منح الأطفال من الأسر الهشة استفاد منها في 2023 حوالي 422,683 طفلا بمبلغ شهري 30 دينارا، ومكاتب حماية الطفل سجلت 22,690 إشعارا خلال 2022 بارتفاع 32.9% مقارنة بعام 2021 ما يعكس تزايد الحاجة إلى تدخلات وقائية عاجلة وفعالة.
وفي التعليم، استفاد 5,893 تلميذا ومراهقا و231 إطارا تربويا من برنامج اليونيسف "M4D" إلا أن تفاوت مستويات التعليم بين الأسر الغنية والفقيرة يظل واضحا ففي الأسر الأشد فقرا فقط 53% من الأطفال يكملون التعليم الإعدادي و25% يصلون إلى التعليم الثانوي ما يبرز ضرورة إعادة هيكلة المنظومة التربوية لضمان تكافؤ الفرص ومنع التسرب المدرسي.
وعلى مستوى المراكز المتخصصة، جاء مرسوم 2020-582 لتنظيم مراكز استقبال النساء والأطفال ضحايا العنف وهو يلزم المراكز بضمان رعاية نفسية وطبية وقانونية للأطفال وتوفير آليات إبلاغ سريعة وتعهد مهني يحترم حقوق الضحايا ويعزز قدرة الدولة على مواجهة العنف الأسري والاجتماعي الذي يشكل أحد أكبر التهديدات على الطفولة.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود، لا يزال دور المجتمع المدني غير مكتمل فبعض المنظمات والجمعيات التي يفترض بها أن تكون صوتا مستقلا للطفل انحرفت عن رسالتها الأساسية وأصبحت أدوات للتمويل السياسي وجمع الأموال باسم الطفولة بينما يبقى الطفل المستفيد تحت ظروف غير مراقبة ما يجعل حقوق الطفل منتهكة أحيانا، في حين تصرف الأموال في النزل والموائد الفاخرة واللقاءات المغلقة والدورات التكوينية التي يتم فيها إقصاء أو تهميش كل من انخرط بصدق في الدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن حقوق الطفل ليست مجالا للمزايدات أو تصفية الحسابات أو منصة لامتيازات شخصية بل قضية وطنية وأخلاقية تتطلب استقلالية وتطوعا صادقا وعملا فعليا بعيدا عن السياسة والترف والظهور الإعلامي.
إلى جانب ذلك، يشير الواقع إلى أن الأطفال ذوي طيف التوحد والإعاقات الأخرى يواجهون صعوبات مضاعفة منها ضعف تجهيز القاعات، نقص المرافقين المختصين، غياب الدعم النفسي والتربوي وهو ما يجعل ساعات الدراسة التقليدية غير كافية بينما يجب استثمار جزء من الوقت في تعليم مهارات حياتية واجتماعية وفق خطة تربوية فردية يتم إعدادها بالتنسيق بين الأسرة والأخصائيين والإدارة التربوية مع تمويل مستمر يضمن تجهيز القاعات وتوفير الموارد البشرية وإرساء مراقبة سنوية.
وبالتالي، فإن حماية الطفل في تونس لم تعد مجرد نصوص قانونية معزولة لكنها أصبحت مشروعا وطنيا متعدد الأبعاد يستوجب تنسيقا محكما بين التشريع والسياسات العمومية وتحديث آليات التدخل السريع وإرساء فضاءات تعليمية دامجة ومراكز إيواء أكثر فاعلية وتطوير منظومة المرافقة القضائية والنفسية مع ضمان تفعيل كل القوانين والبرامج المتاحة بما يجعل من الطفل محور التنمية ومؤشرا رئيسيا لنجاح الدولة في حماية كرامة الإنسان منذ سنواته الأولى.



