اختر لغتك

تونس في مواجهة حرائق الصيف

تونس في مواجهة حرائق الصيف

تونس في مواجهة حرائق الصيف

في تونس لم تعد الحرائق مجرد ظواهر موسمية عابرة لكنها تحولت إلى أزمة هيكلية تفضح هشاشة المنظومة البيئية وتعري القصور الإداري والتشريعي في إدارة المخاطر الطبيعية، فما إن يبدأ الصيف حتى تتكرّر فصول من النيران التي تلتهم الغابات والحقول وتخلف وراءها خسائر مادية وبيئية ونفسية لا يمكن احتواؤها بسهولة، فصيف 2025 كان شاهدا على إحدى أكثر هذه الموجات ضراوة ليس فقط من حيث عدد الحرائق بل من حيث تزامنها وانتشارها الجغرافي الكثيف وسط ارتباك رسمي وانكفاء سياسي عن إعلان حالة طوارئ بيئية حقيقية.

تُظهر المعطيات الرسمية أن الفترة الممتدة من 1 إلى 18 جوان وحدها شهدت اندلاع أكثر من 121 حريقا امتدت من الشمال الغربي إلى الوسط الغابي بما في ذلك ولايات جندوبة، الكاف، باجة، سليانة، وزغوان والأخطر أن أكثر من 95% من هذه الحرائق كانت بفعل بشري إما نتيجة الإهمال كعدم صيانة الآلات الفلاحية القديمة أو بسبب إشعال النيران في الأعشاب اليابسة بطرق غير آمنة أو في حالات أخرى أكثر تعقيدا نتيجة أفعال مدبرة لأغراض عقارية أو انتقامية، هذا الارتباط المتكرر بين العامل البشري واتساع دائرة الضرر يعكس ليس فقط غياب ثقافة الحيطة لكنه أيضا تقاعسا مستمرا في الردع والمراقبة والوقاية.

في هذا السياق، لم تكن تدخلات الحماية المدنية كافية رغم الجهود الجبارة التي بذلتها فرق الإنقاذ على مدار الساعة، ذلك أن معظم التجهيزات المستخدمة لا تزال تقليدية وبدائية في مواجهة حرائق تمتد على مساحات شاسعة وتنتشر بسرعة بسبب الرياح والحرارة العالية؛ ومن هنا، فإن غياب الطائرات المخصصة للإطفاء الجوي إلى جانب محدودية الأسطول البري جعل من كل تدخل مجرد محاولة متأخرة للسيطرة على ألسنة لهب كانت قد تجاوزت بالفعل حدود السيطرة.

بالتوازي مع ذلك، كانت الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الكارثة قاسية جدا فقد خسر مئات الفلاحين محاصيلهم السنوية من الحبوب والزيتون والكروم، كما تم تدمير عشرات الحظائر والمضخات والآبار، ناهيك عن احتراق الحيوانات ومنازل ريفية بأكملها، هذا الواقع المأساوي لم يقابل بخطة تعويض فورية لكنه ترك المتضررون يواجهون مصيرهم وسط تساؤلات مؤلمة من سيعوض خسارتهم؟ ومن سيعيد بناء الثقة في الأرض بعد أن احترقت؟

ولعل ما يزيد المشهد قتامة هو الصمت السياسي المطبق، إذ لم يعقد أي اجتماع وزاري طارئ يعنى بتفعيل خطة وطنية عاجلة ولم تطرح المسألة ضمن أولويات البرلمان وكأن ما يجري ليس كارثة قومية تتطلب تعبئة قصوى بل اقتصر التعاطي الرسمي على بيانات مقتضبة من بعض المسؤولين دون خارطة طريق واضحة لمعالجة الأسباب البنيوية للكارثة وهو ما يكشف عن غياب إرادة سياسية في التعامل الجاد مع خطر يتكرر ويتعاظم ويهدد ما تبقى من الرصيد البيئي والفلاحي الوطني.

في الجانب البيئي، لم تكن النيران فقط تهدد الغطاء النباتي لكنها كانت تمحو نظما إيكولوجية كاملة، إذ تشير التقارير البيئية إلى اختفاء كلي لأنواع نباتية نادرة خاصة في غابات عين دراهم وفرنانة إلى جانب ارتفاع مقلق في نسب ثاني أكسيد الكربون في الجو ما من شأنه أن يزيد من تدهور جودة الهواء ويعمق الأزمة الصحية في المناطق الريفية ومما يزيد الطين بلة أن سياسات إعادة التشجير أو الإحياء البيئي لا تزال مجرد شعارات دون أن تتحول إلى مشاريع ممولة ومراقبة ومتابعة في الميدان.

على مستوى التشريع، لا تزال القوانين الحالية عاجزة عن مواكبة حجم التهديد إذ تفتقر إلى الصرامة في معاقبة المتسببين في الحرائق كما لا توفر الحوافز الكافية للفلاحين لاعتماد أنظمة وقائية حديثة وما لم يتم تعديل المنظومة القانونية بما يكرس مبدأ الوقاية والمساءلة فإن الحرائق ستظل وسيلة للهروب من الرقابة ولخلق واقع جديد بالقوة والرماد.

وبناء عليه، فإن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه اليوم ليس كيف نحارب الحرائق؟ بل لماذا لا نمنعها؟ والفرق بين السؤالين ليس مجرد فارق لغوي لكن فارق بين عقلية رد الفعل وعقلية التوقي الاستباقي، فالأول ينتج دولة تهرول خلف الكوارث أما الثاني فينتج دولة تتوقع وتحمي وتخطط بمنطق الرؤية لا الفوضى.

إن ما تحترق به تونس كل صيف، ليس فقط أشجارها لكن للاسف ثقتها في ذاتها وكرامة فلاحيها ومستقبل بيئتها والمطلوب اليوم ليس استعراضا للبلاغات بل جرأة سياسية وشجاعة قانونية وثقافة مجتمعية جديدة تؤمن بأن النار تبدأ غالبا من شرارة صغيرة ولكنها تتحول إلى كارثة حين يتواطأ الجميع على تجاهلها.

آخر الأخبار

تونس في مواجهة حرائق الصيف

تونس في مواجهة حرائق الصيف

إنا لله وإنا إليه راجعون... ملكة العياري لاعبة النادي الإفريقي في ذمة الله إثر حادث مرور أليم

ملكة العياري... دعوات لشفاء لاعبة النادي الإفريقي بعد نفي خبر وفاتها إثر حادث مرور

حين تعود الكفاءات من الغربة... تونس تفتح الجرح الصحي وتراهن على طبيبها المهاجر

كفاءات تونس الطبية في الخارج: من الغربة إلى قلب الإصلاح الصحي

 🎭 نجيب ڨاصه رئيسًا جديدًا لجمعية "الرصيف الثقافي بقرطاج" 🎭

 🎭 نجيب ڨاصه رئيسًا جديدًا لجمعية "الرصيف الثقافي بقرطاج" 🎭

شكوى ضد رؤساء نوادي رياضية فرنسية  للاشتباه في تورطهم في جرائم فساد وغسيل الأموال 

شكوى ضد رؤساء نوادي رياضية فرنسية  للاشتباه في تورطهم في جرائم فساد وغسيل الأموال 

Please publish modules in offcanvas position.