في ظل تحولات عميقة يشهدها المجتمع التونسي تظل المدرسة العمومية تلك المؤسسة التي يفترض أن تكون القلب النابض للعدالة الاجتماعية والتنمية البشرية تعاني أزمة حادة تعكس هشاشة بنيوية متمادية في منظومة التعليم وتبرز ولاية القصرين بوضوح مأساوي كمثال مكثف يجسد مدى عمق هذا الانهيار حيث لم يعد التعليم فيها مجرد حق دستوري لكنه تحول إلى معاناة يومية وأفق ضيق تتضاءل فيه آمال الأطفال لاسيما في المناطق الداخلية والريفية التي تعاني الإقصاء المزدوج إقصاء جغرافي واجتماعي.
وقد جاءت الندوة التي نظمها المرصد التونسي للاقتصاد بالشراكة مع خبراء في المالية العمومية والفاعلين التربويين لتسلط الضوء على هذا الواقع المرير من خلال دراسة حالة دقيقة وتحليل معمق لجوانب الإقصاء متعدد المستويات منها الإقصاء المادي، الإداري، ااتربوي والتمويلي مع تسليط الضوء بشكل خاص على أوضاع الفئات الأكثر هشاشة وفي مقدمتها الأطفال ذوي الإعاقة.
في الحقيقة.الأزمة التي يعانيها التعليم في القصرين ليست استثناء محليا وإنما هي تعبير عن أزمة وطنية متجذرة ومتفاقمة على مستوى المدرسة العمومية في كامل تراب الجمهورية التونسية، إذ تتسم هذه المنظومة بتفاوتات مجالية صارخة تراكمات إهمال تاريخي وسياسات غير متوازنة جعلت من الجهات الداخلية مساحات متروكة تعاني من ضعف الاستثمار العمومي وهشاشة في التنفيذ والرقابة وهو ما أدى إلى تآكل تدريجي لقدرة المدرسة على القيام بدورها التاريخي كمؤسسة تحرر وتمكين ومساواة.
في هذا الإطار تفرض الوقائع نفسها على الوعي الجمعي والقرار السياسي حيث تبرز معطيات إحصائية صادمة تؤكد جسامة الوضع فما يقارب 38% من المدارس الابتدائية في القصرين تفتقد إلى دورات مياه صالحة للاستخدام و31% منها تفتقر إلى مياه شرب صحية فيما 26% من هذه المدارس لا توفر حماية حقيقية للتلاميذ من خلال سور يحمي الفضاء المدرسي مما يعرض الأطفال لمخاطر عديدة، كما تضطر 17% من المدارس للعمل بنظام الفرق نتيجة لنقص القاعات التعليمية والمعلمين مما يؤثر سلبا على جودة التعلم ويساهم في ارتفاع نسبة الانقطاع المبكر عن الدراسة التي بلغت 10.5% في المرحلة الابتدائية و13.6% في الإعدادية مع تفاقم مقلق خصوصا بين الفتيات في المناطق الريفية وهذه الأرقام ليست محصورة في القصرين لكنها تمتد لتشمل ولايات أخرى ذات طابع داخلي مثل سيدي بوزيد، جندوبة، الكاف، وقبلي مما يجعل هشاشة التعليم مشكلة متشعبة ذات أبعاد وطنية واضحة.
هذا الواقع يضعنا أمام انفصام بين النص الدستوري والواقع العملي حيث ينص الفصل 38 من الدستور التونسي بوضوح على أن التعليم حق يضمنه الدولة مع كفالة مجانية التعليم وجودته وتكافؤ الفرص كما يؤكد الفصل 12 على ضرورة تحقيق العدالة المجالية في الخدمات العمومية، إلا أن هذا التوازن القانوني لا يترجم على أرض الواقع لكنه يكاد يتحول إلى سراب بسبب ضعف الإرادة السياسية وعجز السياسات التعليمية عن تلبية الاحتياجات الحقيقية، فحتى القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 الذي يؤكد على ضرورة اعتماد المدرسة العمومية والدمج في المنظومة التربوية بقي حبرا على ورق أمام غياب الميزانيات والتجهيزات اللازمة والتفاوتات الواضحة في التوزيع الجهوي للموارد.
وعند البحث في أسباب هذا التراجع يتبدى جليا الدور الحاسم للاختيارات المالية والسياسية التي أثرت بشكل مباشر على واقع التعليم حيث انخفضت الميزانية المخصصة لوزارة التربية من 6.5% إلى 5.2% من الناتج المحلي الخام خلال العقد الأخير، ففي وقت يخصص 83% من هذه الميزانية لتغطية أجور الموظفين بينما لا تتجاوز نسبة المصروفات الموجهة للبنية التحتية والتجهيزات 6.7% فقط ويزداد الوضع مأساوية عندما نعلم أن الجهات الداخلية التي تتطلب تدخلا مضاعفا تتقاسم أقل من 2% من المشاريع الوطنية التعليمية مما يعمق فجوة التنمية ويكرس التهميش في المناطق التي تحتاج إلى دعم أكبر.
وأمام هذه الصورة المأساوية تتجلى الفئة الأكثر تهميشا وإقصاء بوضوح ألا وهي الأطفال ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة الذين يواجهون حرمانا ممنهجا متعدد الأبعاد إذ لا تتجاوز نسبة إدماجهم في المدارس العمومية بالقصرين 0.8% فقط في حين أن أغلب المدارس تفتقر إلى قاعات موارد مهيأة.ومساعدين تربويين مختصين.وتجهيزات دامجة مثل المداخل المهيأة.المقاعد الخاصة واللوحات التعليمية التفاعلية التي تراعي احتياجاتهم الخاصة، كما يغيب النقل المدرسي المهيأ وتفتقر معظم المؤسسات إلى مرافق صحية ملائمة لهم ويلاحظ نقص حاد في تكوين المدرسين للتعامل مع حالات الإعاقة مما يجعل التلاميذ أكثر عرضة للتهميش والعزلة.
ولا تتوقف مأساة هذا الوضع عند حد نقص التجهيزات أو الخدمات لكنها تتعمق أيضا في نقص الموارد البشرية المختصة حيث لا يتجاوز عدد الاختصاصيين التربويين والنفسيين في بعض الولايات مثل القيروان، قفصة، مدنين، وتوزر أصابع اليد الواحدة وهو ما يعوق إمكانيات التدخل الفعال ويجعل من إدماج الأطفال ذوي الإعاقة تحديًا يفتقر إلى الموارد والدعم الضروريين.
وعلى الرغم من أن القانون التوجيهي عدد 83 لسنة 2005 الخاص بالأشخاص ذوي الإعاقة والفصل 48 من الدستور التونسي لسنة 2022 والاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي صادقت عليها تونس عام 2008 تفرض على الدولة الالتزام بضمان التربية الدامجة إلا أن واقع الممارسة يظل بعيدا كل البعد عن هذه الالتزامات، إذ تستمر المدرسة في اعتماد نموذج العزل بدلا من الإدماج عبر توجيه الأطفال ذوي الإعاقة إلى مراكز خاصة غير مراقبة تربويا أو تركهم دون تعليم أصلا وهو ما يشكل انتهاكا واضحا وصريحا لحقهم الأساسي في التعليم على أساس المساواة وعدم التمييز.
ومن هذا المنطلق، تتبلور ضرورة اتخاذ إصلاحات جذرية وعملية تبدأ بتنقيح عاجل وشامل للقانون عدد 83 لسنة 2005 ليشمل آليات تطبيق ملزمة مع تحديد جداول زمنية واضحة لإدماج الأطفال ذوي الإعاقة تدريجيا في التعليم العمومي مدعومة بميزانيات خاصة مخصصة لهذا الغرض، كما يتوجب تبني مبدأ التمييز الإيجابي عبر تخصيص 30% من ميزانية التجهيز التربوي للولايات الداخلية سنويا وإحداث صندوق دائم خاص بالبنية التحتية المدرسية في الجهات المحرومة لضمان استدامة التمويل وتحسين الظروف المادية للمدارس.
إضافة إلى ذلك، يعد تفويض صلاحيات التمويل والتنفيذ للمندوبيات الجهوية ضرورة حتمية لتحقيق لا مركزية فعالة للقرار التربوي مع إنشاء لجان محلية تشاركية تضم المجتمع المدني، الإطارات التربوية وأولياء الأمور لمتابعة تنفيذ المشاريع مما يضمن مشاركة مجتمعية حقيقية وشفافية في تدبير الموارد.
وللنهوض بالمدرسة العمومية التونسية ينبثق الإصلاح الحقيقي من إعادة تأسيسها كمشروع حضاري شامل يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان، المعرفة، والمجتمع بحيث لا تبقى المدرسة مجرد فضاء تقني لتلقين المعلومات لكنها تصبح حاضنة للحياة الفكرية والوجدانية ومختبرا ديمقراطيا لتجسيد القيم الإنساني، ويتحقق ذلك عبر بناء بيئة تعليمية متكاملة تدمج البنية التحتية التي تعكس احترام كرامة التلميذ واحتياجاته الجسدية والنفسية بما يشمل تأمين مياه نظيفة، مرافق صحية تحفظ الخصوصية، فضاءات مرنة تحفز التفاعل والإبداع وشبكة دعم نفسي واجتماعي متناغمة ومتواصلة داخل المؤسسات، هذا ويتطلب الأمر إعادة هندسة منظومة التكوين المهني والتربوي للمعلمين عبر برامج مستدامة ترتكز على تطوير الذكاء العاطفي والاجتماعي وتعزيز القدرة على إدارة الفوارق والاختلافات بمرونة وإنسانية مما يرسخ دور المعلم كمرشد وصانع للوعي لا مجرد ناقل للمعلومة وفي الوقت نفسه توظف التكنولوجيا التربوية ضمن مشروع وطني متكامل يقطع مع الإقصاء الرقمي ويضمن توزيعا عادلا للبنى التحتية الرقمية والمحتوى التعليمي مع التركيز على تطوير أدوات تعليمية تفاعلية تحفز على التفكير النقدي وتفتح آفاق الإبداع، وعلى صعيد الحوكمة يفرض الوضع الراهن تحولا جذريا في نمط إدارة المدارس عبر اعتماد آليات شفافة وديمقراطية تشرك المجتمع المدني، أولياء الأمور، والتلاميذ في القرار والمتابعة مع توفير استقلالية مالية تتيح تلبية الحاجات المتجددة بكفاءة وتفتح المجال أمام شراكات استراتيجية مع القطاع الخاص تدار بضوابط صارمة تضمن استقلالية المشروع التربوي وعمقه الحقوقي وفي صميم هذا الإصلاح توضع مناهج تعليمية تنبني على تطوير مهارات حياتية متعددة الأبعاد تشمل التفكير الناقد، حل المشكلات، التواصل الفعال، والعمل الجماعي مصحوبة بأنشطة إثرائية فنية وثقافية ورياضية تتيح للتلميذ استكشاف ذاته وتوسيع مداركه الأمر الذي يعزز من إمكانيات مساهمته الفعالة في بناء وطنه ويستند كل ذلك إلى منظومة تقييم شاملة ودقيقة تجمع بين المؤشرات الكمية والنوعية تقيس أداء المؤسسات التعليمية، جودة المناخ التربوي وفعالية العدالة التربوية لتكون قاعدة لاتخاذ قرارات تصحيحية مستمرة تعزز من فاعلية الإصلاح واستدامته، وهذا العمق والدقة تتحول المدرسة العمومية إلى نواة حقيقية لإنتاج الإنسان التونسي الواعي، الحر، والقادر على مواجهة تحديات المستقبل، وهو مدخل أساسي لترسيخ دولة القانون والعدالة الاجتماعية.والتنمية المستدامة.
هذا ويأتي إدماج التربية الدامجة كأولوية وطنية لا تقبل المساومة عبر تعميم قاعات الموارد، توفير تكوين إلزامي ومستمر للمدرسين في مجالات التربية الخاصة وتوفير مساعدين تربويين مختصين في كل مدرسة تضم أكثر من ثلاث حالات إعاقة مع تطوير برامج تربوية تراعي الفروق الفردية لتفعيل الإدماج بشكل حقيقي.
ولا يغيب عن الرؤية ضرورة التعاون المتكامل مع البلديات والمجتمع المدني في تهيئة فضاءات مدرسية ملائمة كإنشاء منحدرات ومصاعد وإشارات مرورية خاصة إضافة إلى توفير خطوط نقل مدرسي متخصصة ومهيأة للأطفال ذوي الإعاقة لضمان سهولة وصولهم وتمكينهم من المشاركة الفعلية في الحياة المدرسية.
وعلى صعيد العدالة الرقمية، يجب أن تتوفر موارد رقمية بيداغوجية دامجة مثل أجهزة ناطقة، لوحات تواصل بديلة، وبرامج تعليمية ميسرة تستهدف الأطفال ذوي الإعاقات البصرية والسمعية بما يضمن تمكينهم من التعلم دون حواجز.
وأخيرا، لا بد من إحداث آلية رقابية وطنية مستقلة تعنى بقياس أثر السياسات والإجراءات المتخذة في مجال إدماج ذوي الإعاقة عبر مرصد وطني ينشر تقارير دورية شفافة ومفصلة تتيح مراجعة السياسات باستمرار وتحفيز الإصلاحات المتواصلة وتفعيل مبدأ المحاسبة.
في الخلاصة حين يقصى الطفل من التعليم بسبب إعاقته أو فقره أو بعده الجغرافي، فإننا لا نقصيه فقط من مقاعد الدراسة لكننا نقصيه من مستقبل يعكس كرامته وانتماءه ونمسخ نسيج المجتمع وندفعه نحو تفكك عميق، فالتعليم حق أساسي من حقوق الإنسان وهو ركيزة لا غنى عنها لبناء دولة القانون والكرامة ومن دون عدالة تربوية دامجة تبقى المنظومة التعليمية منتجة للفوارق والإقصاء ورافعة لهشاشة مجتمعية متزايدة.
اليوم معركة إنقاذ المدرسة العمومية في تونس ليست خيارًا إنما هي واجب وطني وأخلاقي لا يتحقق إلا عبر إرادة سياسية حقيقية تحول النصوص الدستورية والقانونية إلى أفعال ملموسة وواقعية وتحول الحقوق إلى واقع محسوس كي لا تبقى بلادنا أسيرة خرائط التهميش والفقر واللا مساواة بل وطنا يحتضن كل أبنائه بلا استثناء واقتصادًا قائما على الحقوق وسياسة تكرس الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية فتشرق من جديد شمس التعليم العمومي كمنارة تضيء دروب المستقبل لكل طفل تونسي.