في هذا الركن الهادئ من المدينة، حيث لا شيء يبدو صاخبًا سوى صمت المعنى وداخل قاعة تتنفس الفن من مسامها تأخذنا المهندسة والفنانة التشكيلية العصامية سهير حميد في تجربة لا تشبه عرضا إنما تشبه طقسا، طقس العودة إلى الذات لا تلك الذات المعزولة بل الذات المتشظية في التراب، في الألوان، في المهن التي نسينا أسماءها، في الشوارع القديمة التي تذكرنا بمن نحن دون أن تقول شيئا.
مقالات ذات صلة:
اليوم: الاستاذة هدى دبيش تقدم معرضا للفنون التشكيلية في المركب الثقافي بحمام الأنف
التربية التشكيلية كوسيلة علاجية لمواجهة صعوبات الكتابة
سهير حميد فنانة تشكيلية عصامية تبدع بالفرشاة والألوان
في معرض حراك إبداعي لا نجد أنفسنا أمام لوحة نتأملها ثم نمضي، إننا شيئا فشيئا نصبح داخلها، نذوب في نسيجها، نتحول إلى جزء من سردها كما لو أن الفنانة قد حيكتنا معها بخيوط خفية وأدخلتنا في نسيجها كما يدخل الراوي سامعيه في حلم.
رجل يجلس لا ليس يجلس يتمركز يتجذر، يجلس كمن يعرف جيدا معنى أن تكون ثابتا في زمن متحرك، جسده ساكن لكن الزمن من حوله يدور، ثيابه البيضاء لا تعني النقاء كما يظن البعض لكن الحياد التام، التجرد من ضجيج الألوان ليبقى للروح فقط ما تريده من المعنى، على رأسه شاشية حمراء ليست مجرد غطاء لكنها ختم انتماء، أثر قبيلة، بوصلة وعلى أذنه وردة ياسمين، ما الذي يدعو رجلا إلى وضع زهرة على أذنه؟ ربما هي ذكرى امرأة أو عادة قديمة أو لحظة حب لم تنته وربما لا شيء من ذلك، ربما فقط الجمال حين يسكن إنسانا يقرر أن ينبت عليه.
اليد التي تحمل الصينية لا ترتجف ولا تتظاهر بالقوة، هي يد مصل، يد تقدم شيئا لا للعرض بل للنية على الصينية شموع؟ زهور؟ لا نعلم، التفاصيل ليست لتفسير الأشياء بل لتوقيف الزمن عند عتبة الرؤية؛ خلف الرجل، الجدار. آه، الجدار، ليس ديكورا لكنه بطل آخر في الحكاية، زليج أخضر وبني وذهبي، مربعات تعرف كيف تنظم الفوضى، كيف تمنح الفضاء موسيقى صامتة لا تعزف. نافذة حديدية بلون أزرق باهت تقف في المنتصف كعين ثالثة من هناك، ربما، يدخل الضوء الخفيف الذي لا نراه ولكنه يُضيء كل شيء.
وحين ننتقل إلى اللوحة الثانية، لا نشعر بالقفز بل بالانسياب، من رجل ساكن إلى شاب منحن، من المتأمل إلى الفاعل، من الداخل إلى الخارج، من الاستقبال إلى البذل؛ هذا الشاب لا ينظر إلى أحد عيناه منصبتان على ما تصنع يداه، دولاب الطين يدور ويداه تدور معه كأن الخلق لا يبدأ من العدم بل من حركة، هنا الطين ليس مادة بل ذاكرة، كل آنية تشكلت خرجت من رحم التدوير تحولت من كتلة صماء إلى شيء يمسك ويستخدم ويحب.
الألوان هنا ترابية لا عن عبث، الطين لا يلون بالأزرق، الطين يحتر وتحترم الأرض به تنحني عليه لا لتخضع بل لتخلق، خلفية اللوحة لا تنافس الحضور فقط تحتضنه كأن الفنانة تصر على أن لا شيء يجب أن يعلو على الإنسان حين يبدع وكل الفخاريات حوله شاهدة، صامتة، مصطفة كجمهور لا يصفق إلا انه يبارك.
هذا ليس مجرد تصوير لحرف لكنه محاورة كأن يد الشاب تحادث الطين، تستنطقه، تعتذر منه قبل أن تغيره، وبين الطين واليد تدور الفكرة القديمة الجديدة: نحن لا نشكل الأشياء فقط إنما نشكل بها.
وإذا عدنا للربط الخفي بين العملين نجد أن سهير لا ترسم مشاهد بل تنسج جسورا بين جيلين، بين حركتين، بين حالتين، بين رجل يعرف معنى الصمت وشاب يعرف معنى الخلق وبينهما تقف هي لا نراها بين سطور اللوحات لكننا نشعر بها على ارض الواقع، في طريقة اختيار الألوان، في زاوية النظرة، في صدق النفس، في تفادي المبالغة، في احترام الموروث دون أن تحنطه، فلا تكرر سهير التراث بل تزرعه من جديد.
في لوحاتها لا نجد البهرجة التي تفتن العين وتترك القلب فارغة انما نجد الهدوء الذي يربك، الذي يفتح بوابات التأمل، الذي يعيد ترتيب الداخل كما ترتب الزليجات المربعة سطح جدار، إن كل ضوء في لوحاتها لا يأتي من خارجها بل من داخل الأشياء، من قلبها الطيني أو الجلدي أو الخشبي ذلك الضوء الذي لا يرى لكنه يحس، لا يشير بل يلمح.
تخرج من المعرض ولا تزال اللوحات تسكنك تتساءل إن كنت رأيت أكثر مما يرى أو شعرت بأكثر مما يفهم وربما هذا هو الفن كما أرادته سهير لا أن تقول لك "انظر" بل أن تجعلك تقول "لقد رأيت" دون أن تشرح ماذا.
وتجدر الإشارة إلى أن المهندسة والفنانة التشكيلية العصامية سهير حميد هي فنانة تونسية عصامية التكوين، عشقت الرسم منذ طفولتها وواصلت شغفها بالفن التشكيلي بخطى ثابتة، تمتلك حوالي ستين لوحة بخامات مختلفة تعرض دوريا في معارض افتراضية دولية، وقد شاركت في المعرض السنوي للفنون التشكيلية بالمركز الثقافي الروسي لثلاث سنوات متتالية (2013، 2014، 2015)، كما حضرت في مهرجان إيلاف للثقافات سنة 2023 تحت شعار "نساء مبدعات، نساء رائدات"، وساهمت في عدة ورشات فنية بتونس، من بين مشاركاتها الميدانية: رسم مباشر في مهرجان الورد بأريانة، ملتقى الوجدان الثقافي برواد، مهرجان الساف ومهرجان الفنون بالهوارية، إضافة إلى معرض جماعي في تظاهرة التراث المادي واللامادي بقليبية، ومشاركة متميزة بمهرجان أسبيس على كورنيش قليبية، وتظاهرة نسمات صيفية بكركوان، وملتقى الفنون بالرفراف، وأعمالها تتنوع بين الرسم الزيتي والأكريليك، ولها بصمة خاصة في رسومات نباتات نادرة بالحبر على الورق، كما أنها منخرطة بعدة نواد فنية، من بينها نادي الفنون التشكيلية بدار الثقافة النموذجية أبو القاسم الشابي ببن عروس وتحظى بتقدير واسع من خلال العديد من الشهادات الوطنية والدولية اعترافا بمشاركاتها الثرية في الساحة الفنية، ولعل هذه السيرة التي تنبض بالإصرار والحضور تمنحنا مفتاحا لفهم سر ذلك الضوء الداخلي الذي ينساب من لوحاتها، ذلك الذي لا يرى لكنه يحس.