تمثل الذكرى 69 لمجلة الأحوال الشخصية فرصة للتقييم النقدي لمسار حماية حقوق المرأة وتحويل المكتسبات القانونية إلى واقع ملموس، إذ تكشف الممارسة اليومية عن فجوة بين النظرية القانونية والواقع الاجتماعي والسياسي مما يفرض مساءلة دقيقة لمسار تطبيق الحقوق، إن النصوص القانونية رغم كونها إرثا تشريعيًا متقدما تبقى غير كافية وحدها ويستلزم تحقيق المساواة الفعلية إرادة سياسية واضحة وآليات متابعة صارمة، كما أكدت جبهة المساواة وحقوق النساء خلال ندوة نظمتها حول واقع المساواة بين المكتسبات والتحديات والتهديدات تحت شعار "نحبوها مساواة تامة وفعلية، موش شعارات ووعود وهمية".
لقد مثلت مجلة الأحوال الشخصية عند صدورها سنة 1956 خطوة ثورية في مسار التشريع التونسي، إذ ألغت تعدد الزوجات وضبطت آليات الطلاق وأقرت حقوق المرأة في الولاية والميراث والمكاسب الاجتماعية الأخرى، ومع ذلك ظل التطبيق الواقعي محدودا بسبب ضعف آليات التنفيذ واستمرار الممارسات الثقافية والاجتماعية التي تقوض حقوق المرأة ما يجعل السؤال المحوري حول كيفية تحويل النصوص القانونية إلى أدوات حماية فعلية تعكس قيم المساواة والعدالة على الأرض.
وتبرز الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية كعامل رئيس في استمرار التمييز، إذ تواجه النساء خصوصا في المناطق الداخلية والقطاعات الهشة بطالة مرتفعة وأجورا متدنية وعقودا هشة بلا ضمانات صحية أو تقاعدية مما يعيد إنتاج التبعية الاقتصادية ويحد من قدرة المرأة على ممارسة حقوقها الكاملة، ومن ثم يصبح ربط التشريعات بالقوانين الاقتصادية والاجتماعية ضرورة لضمان استقلالية المرأة وقدرتها على المشاركة المجتمعية والسياسية بحرية.
كما تواجه الحقوق الجنسية والإنجابية تحديات متزايدة بفعل الخطابات الشعبوية والرجعية ما يجعل تفعيل قانون مناهضة العنف ضد النساء (القانون عدد 58 لسنة 2017) ضرورة استراتيجية لضمان الحماية الشاملة من العنف المادي والرمزي والسياسي وتأمين حرية المرأة في التعليم والعمل والمشاركة السياسية بما يعكس الحاجة إلى مراجعة الممارسات الثقافية والاجتماعية التي تحد من قدرة المرأة على ممارسة حقوقها كاملة.
ويترسخ دور المساواة بين الجنسين كمعيار أساسي لاستكمال الديمقراطية، إذ إن استبعاد النساء أو تقييد مشاركتهن السياسية يعد انتهاكا للقانون والدستور ويقوض قدرة الدولة على بناء مجتمع ديمقراطي متوازن، إذ لابد من أن يمثل ضمان وصول النساء إلى مواقع القرار وحمايتهن من العنف السياسي معيارا جوهريا لتقييم التزام الدولة بالقيم الدستورية والمدنية.
وفي هذا الإطار، يصبح تطوير مجلة الأحوال الشخصية ضرورة استراتيجية لا يمكن تأجيلها حيث تشمل مراجعة شاملة لأحكام الولاية والمهر والميراث بما يتوافق مع الدستور والمعايير الدولية مع إدماج مرسوم 4 لسنة 2024 الذي يعزز حقوق المرأة العاملة ويضع معايير حماية واضحة تشمل الأجور العادلة والتغطية الصحية والاجتماعية وحقوق الأمومة ويمنع التمييز والطرد التعسفي، كما يتعين ربط مراسيم الأمومة والعمل لتشكيل إطار قانوني متكامل يضمن حماية المرأة في مختلف مراحل حياتها ويحول المكتسبات القانونية إلى واقع ملموس، كما لابد من تفعيل القانون عدد 58 ليشمل الحماية من العنف الرمزي والسياسي والاقتصادي إلى جانب العنف الجسدي وإنشاء آليات متابعة وتقييم وطنية بمشاركة المجتمع المدني والخبراء القانونيين لضمان التطبيق الفعلي للنصوص على أرض الواقع.
وفي ضوء ذلك، تصبح الذكرى 69 لمجلة الأحوال الشخصية أكثر من مناسبة تاريخية؛ إنها اختبار لقدرة الدولة على تحويل المكتسبات القانونية إلى حماية فعلية للمرأة وتفرض التساؤلات نفسها حول كيفية ضمان تطبيق القوانين والمرسومات بشكل متكامل وتحويل النصوص القانونية من شعارات إلى أدوات حماية حقيقية وربط التشريعات بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية لضمان استقلالية المرأة وتمكينها من ممارسة حقوقها كاملة وكل ذلك ضمن استراتيجية وطنية متكاملة تحول المساواة الفعلية من فكرة نظرية إلى واقع ملموس على الأرض وتؤكد أن حقوق المرأة محور أساسي لبناء دولة مدنية مستقرة وديمقراطية.