مع اقتراب يوم الجمعة الموافق 10 أكتوبر 2025، تتجه الأنظار نحو ولاية جندوبة التي ستستضيف أياما علمية شاملة بفندق تروبيكا في طبرقة حيث من المتوقع أن يجتمع خلال هذا الحدث الأكاديمي والمهني الباحثون والفاعلون المحليون وممثلو المجتمع المدني لمناقشة القضايا البيئية والتنموية بمستوى علمي متقدم، وذلك في إطار سعي مشترك لتعزيز الحوكمة المستدامة للموارد الطبيعية وربطها بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية المحلية ويكتسب هذا الحدث أهمية استراتيجية لأنه يتيح الجمع بين الرؤية العلمية والخبرة الميدانية مما يعزز القدرة على صياغة حلول عملية تستجيب للتحديات البيئية والاجتماعية التي تواجه الولاية.
تتمتع ولاية جندوبة بموقع جغرافي استراتيجي وموارد طبيعية تنوعة حيث تغطي الغابات نحو ثلاثين بالمئة من مساحة الولاية، أي ما يعادل حوالي 110,000 هكتار وهو ما يجعلها واحدة من أكبر المناطق الحرجية في تونس، وبالإضافة إلى ذلك تتسم الولاية بمناخ مطير نسبيا إذ يبلغ معدل هطول الأمطار السنوي ما بين 1,000 و1,500 ملم مما يسهم في تعزيز المخزون المائي ودعم النشاط الزراعي والسياحي على حد سواء، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الموارد الطبيعية في جندوبة توفر قاعدة متينة للتنمية الاقتصادية غير أن هذه الإمكانات تواجه تحديات كبيرة تتطلب تدخلاً علميًا واستراتيجيات مدروسة، خاصة مع تسجيل معدلات فقدان الغابات بنحو 276 هكتارا سنويا وهو ما يهدد التنوع البيولوجي ويضعف التوازن البيئي وبالتالي يستدعي تعزيز الجهود نحو الحماية المستدامة للموارد الطبيعية.
وبالرغم من وفرة الموارد الطبيعية، تشير الدراسات إلى أن المياه المتجددة المتاحة للفرد سنويا في تونس تقل عن 400 متر مكعب وهو يصنف ضمن نطاق ندرة المياه المطلقة ما يفرض ضرورة تبني استراتيجيات متكاملة لإدارة الموارد المائية، علاوة على ذلك يضاف إلى ذلك الضغوط الناتجة عن التغيرات المناخية التي تؤثر بشكل مباشر على الأنظمة البيئية والزراعية مما يحتم تطوير خطط مستدامة ترتكز على تقنيات حديثة للري وإدارة المياه، إضافة إلى تبني ممارسات زراعية أكثر كفاءة تتماشى مع احتياجات البيئة والمجتمع المحلي على حد سواء.
ويأتي القطاع الزراعي في مقدمة الركائز الاقتصادية للولاية، إذ تساهم جندوبة بنسبة تتراوح بين 12 و13.4% من الإنتاج الوطني للحبوب و26% من إنتاج الخضروات إلى جانب 12-13.4% من إنتاج الحليب و16% من البطاطا و6-9% من اللحوم الحمراء، كما تسهم الولاية بما نسبته 35-51% من الإنتاج الوطني للخشب و94% من إنتاج الفلين و29% من التبغ وهو ما يبرز دورها الاستراتيجي في الاقتصاد الوطني، ومن هذا المنطلق يتضح أن تعزيز إنتاجية القطاع الزراعي ليس خيارا بل ضرورة استراتيجية تتطلب دمج الابتكار الزراعي والتقنيات المستدامة مع التركيز على بناء قدرات الفلاحين وتحسين نظم الري والتسميد والحفاظ على التربة لضمان استدامة الإنتاج على المدى الطويل.
وفي نفس السياق، يشهد القطاع السياحي في جندوبة نموا مستمرا حيث بلغ عدد السياح الجزائريين الوافدين إلى الولاية نحو 95,644 زائرا خلال جويلية 2025 بزيادة تقارب 17% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، ومن جهة أخرى تجاوزت قيمة الاستثمارات السياحية قيد الإنشاء والتوجهات الاستثمارية في الولاية 400 مليون دينار تونسي مع توقعات بخلق نحو ألف فرصة عمل جديدة خلال السنوات المقبلة ما يعكس قدرة القطاع على المساهمة في التنمية الاقتصادية المحلية، غير أن هذا النمو السياحي لابد أن يقترن بسياسات بيئية صارمة تضمن الحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية النظم الإيكولوجية الهشة وإلا فإن المكاسب الاقتصادية قد تتحول إلى أعباء بيئية تهدد استدامة التنمية.
هذا وتركز الأيام العلمية على عدة محاور متكاملة منها دراسة واقع الموارد الطبيعية والتحديات البيئية والمائية بشكل علمي دقيق مع تقديم بيانات إحصائية تدعم اتخاذ القرار المبني على الأدلة، ومن جهة أخرى سيتم عرض تجارب محلية ناجحة تظهر كيفية الجمع بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية البيئة مع التركيز على دور المرأة الريفية في التنمية الزراعية والمجتمعية وربط مساهمتها بأهداف التنمية المستدامة على المستويين الوطني والدولي، كما تشمل الفعاليات جلسات نقاشية تفاعلية تتيح للباحثين والفاعلين المحليين تبادل الخبرات ومناقشة مشاريع تربط بين المعرفة العلمية والممارسة العملية بما يضمن صياغة توصيات عملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
علاوة على ذلك، تسلط الفعاليات الضوء على استخدام البيانات الترابية وأدوات الذكاء السياسي في دعم التخطيط الحضري والإقليمي وتطوير السياسات المحلية المتعلقة بالموارد الطبيعية، كما ستتم مناقشة المبادرات المجتمعية والمشاريع التربوية التي تربط بين البحث العلمي والممارسة الميدانية بما يعزز القدرة على التكيف مع التغيرات البيئية والاقتصادية المستقبلية ويتيح بناء مجتمعات مرنة قادرة على مواجهة التحديات بفعالية.
ويمكن القول إن هذه الأيام العلمية تمثل خطوة استراتيجية متقدمة نحو تحقيق التنمية المستدامة في ولاية جندوبة، إذ توفر إطارا متكاملا للجمع بين البحث العلمي والممارسة المجتمعية والحكامة الرشيدة وتعمل على تحويل التحديات البيئية والاجتماعية إلى فرص تنموية قابلة للتطبيق، فالهدف النهائي يتمثل في حماية الموارد الطبيعية وتعزيز جودة الحياة للسكان وضمان أن تكون التنمية شاملة ومتوازنة وقادرة على مواجهة تحديات المستقبل، كما يشكل هذا الحدث نموذجا يحتذى به على الصعيد الوطني والعربي حيث يلتقي العلم بالمجتمع لصياغة حلول عملية وفعّالة للتنمية المستدامة مع تعزيز التعاون بين جميع الفاعلين المحليين والمؤسسات الأكاديمية والمجتمع المدني لبناء رؤية علمية متكاملة ومستقبل أكثر استدامة لأجيال ولاية جندوبة القادمة.