في خطوة وصفت بكونها تنظيمية لكنها أثارت جدلا واسعا في الأوساط المالية والقانونية، جاء الفصل 43 من القانون المالي لسنة 2024 ليفرض على البنوك والمؤسسات المالية ووسطاء البورصة ومؤسسات التأمين إجراءات تصفية المبالغ المالية والإيداعات والأوراق المالية والمستحقات التي لم يتم المطالبة بها طيلة 15 سنة لفائدة خزينة الدولة، الفصل الذي نشر بالرائد الرسمي عدد 149 بتاريخ 10 ديسمبر 2024 يدخل حيز التنفيذ فعليا في موفى جوان 2025 مما يضع المؤسسات المالية أمام حتمية التصرف الفوري في حسابات وأموال لم تلمس منذ عقد ونصف دون أن يطرح السؤال الجوهري من يدافع عن أصحاب الحق؟ وأين تقف الدولة من حماية المواطن في وجه تغول البيروقراطية؟
ما يثير القلق ليس فقط في فرض تحويل المبالغ دون إجراءات قضائية شفافة لكن في اعتبار مجرد "عدم المطالبة" لمدة 15 سنة موجبا لإسقاط الحق رغم أن مبدأ العدالة لا يعترف بالسكوت كتنازل صريح، فالآلاف من الحسابات التي تشمل مهاجرين، مفقودين، مرضى، مسنين، أو حتى ورثة غير واعين بوجود هذه الأموال تدفع دفعا نحو الاندثار المالي وسط صمت قانوني يفسر تعسفا كموافقة ضمنية وبينما يدعو الخطاب الرسمي إلى الإدماج المالي والرقمنة والشفافية يكشف هذا النص عن فجوة عميقة بين الشعارات والممارسات ويكرس منطق إما أن تطالب أو تخسر بدم بارد.
تفرض على البنوك والمؤسسات المالية واجبات التصريح الدقيق وتحويل الأموال المجمدة دون أي أثر لمبدأ التدرج أو البحث الفردي في الوضعيات وتستثنى فقط الحالات المتعلقة بالقصر وفاقدي الأهلية، وما عدا ذلك تعتبر الأموال المجمدة غنيمة شرعية تحول ببساطة إلى الحساب الجاري للخزينة ولو أن صاحبها لا يزال حيا وغائبا عن المشهد المالي، هذا الانسحاب الصارخ من مبدأ الحماية القانونية يفرغ العلاقة بين الدولة والمواطن من بعدها الأخلاقي ويحول المؤسسات المالية من حافظ للأمانات إلى يد تنفذ أوامر التحويل القسري.
ولا يقتصر الأمر على الأموال فقط لكنه يمتد إلى الأوراق المالية التي ألزم الوسطاء الماليون بإعادة شرائها وتحويل محصولها إلى خزينة الدولة دون رقابة مستقلة أو إشراف قضائي مع منح وزارة المالية صلاحية تعيين وسيط إداري يتولى بيع هذه الأوراق في ظرف لا يتعدى 6 أشهر، كما يفترض أن تكون هذه الإجراءات تنظم المال المهجور وتحميه من التبديد وبكن غياب الضمانات القانونية والرقابة يجعلها أقرب إلى استحواذ مؤطر بالقانون منه إلى حماية منهجية لمصلحة عامة.
الوجه الأشد قسوة في هذا الفصل يتمثل في نهايته التي تنص على نشر قائمة بأصحاب الحسابات والمستحقين في الرائد الرسمي في أجل أقصاه 30 أفريل 2025 مع إعلامهم بسقوط حق المطالبة، بهذه الصيغة يصبح القانون نفسه سيفا يسقط به الحق بلا محكمة وبلا تنبيه سابق حقيقي، فكيف تسقط الدولة ملكية مواطن لمجرد صمته؟ وأين العدالة في إعلام متأخر يسبق المصادرة بأيام ويقدم كحق في الإعلام؟ هكذا يصبح القانون أداة لتجفيف الحسابات لا لاسترداد الحقوق وتتحول خزينة الدولة من ملجأ للمصلحة الوطنية إلى مستودع للمبالغ التي لم يطالب بها أصحابها في الوقت المناسب.
صحيح ان هذا الفصل قد يقرأ ضمن محاولات الدولة الحثيثة لتمويل خزينة منهكة بالديون والعجز المالي لكن حين يتم ذلك دون تحصين قانوني للمستحقين فذلك يؤكد أننا لسنا أمام إجراءات تنظيمية إنما أمام هندسة تشريعية للسطو المؤجل على الأموال النائمة والخطورة لا تكمن فقط في التطبيق بل في تغييب النيّة التشريعية لضمان العدالة وفي تحويل واجب الحماية إلى ترسانة بيروقراطية تنفذ أوامر مالية لا تسائل نفسها.
وأمام هذا الواقع تبدو الحاجة ملحة إلى إدماج السلطة القضائية في عملية غربلة الحسابات ووضع آلية واضحة للتبليغ المسبق مع إمهال زمني فعلي يمكن أصحاب الحقوق من استردادها، كما يجب نشر المعلومات بطرق تراعي حماية المعطيات الشخصية دون أن تخفي الحقيقة عن أصحابها وإطلاق حملات وطنية تشرك المجتمع في التوعية بدل أن تعتمد على قانون صامت يسقط الحق بمرور الزمن فقط.
فتصفية الحسابات لا يمكن أن تكون بديلا عن المحاسبة.كما لا يمكن أن يصبح الزمن حاكما وحيداً على حقوق الناس فالغياب لا يعني التنازل والصمت لا يبرر السطو وحق الملكية يجب أن يحترم وفق قواعد العدالة والشفافية.