بقلم: عزيز بن جميع
حين تتجاوز السينما حدود الحكي لتتحوّل إلى مرايا داخلية، حين يصبح الصمت أقوى من الصراخ، ويغدو المشهد البسيط أكثر تأثيراً من حبكة معقدة... نكون أمام عمل مثل «فراغ»، هذا الفيلم القصير الذي لم يأتِ ليمر، بل ليسكن فينا.
في دقائق معدودة، تفجّر فدوى المنصوري ما يشبه الثورة الناعمة على واقع النسيان، وتغوص بكاميرتها في تفاصيل الخيبة والخذلان والخذلان المضاد. "فراغ" ليس مجرد عنوان، بل وصف دقيق لما تبقّى في داخلنا من أمكنة مهجورة... تجاه الأم، وتجاه من أعطونا دون شرط.
إخراج بصري ضد البلاغة
فدوى المنصوري لم تخرج من دفاتر السيناريو التقليدية، بل من رحم الذاكرة اليومية. إخراجها يتخلى عن الفذلكة البصرية ليقول الكثير بالصمت والظلّ والمسافة. لا تشرح ولا تدين، بل تكتفي بتجسيد الخواء. الخواء فينا. الخواء الذي يسكن البيوت عندما نهجر العاطفة باسم الانشغال.
كوثر بالحاج… دورٌ أم سيرة؟
في "فراغ"، لا تؤدي كوثر بالحاج شخصية الأم، بل تنصهر فيها. كل دمعة تنزل بثقل القهر الجمعي. لا تُمثّل، بل تستحضر. ولا تستعير وجعًا، بل تسترجع ذاكرة نساء نسينَ أن يُنتَبَهن. ممثلة اختارت أن تحترق بدل أن تتجمّل.
دعم لا يُقيد: إيمان السويلمي
في مشهد إنتاجي ينهار أمام التسليع، كانت إيمان السويلمي جزءًا من مقاومة الفن النقي. اختارت أن تكون منتجة لا بوصفها مالكة قرار، بل حارسة لهوية المشروع. ما قدّمته في "فراغ" ليس دعماً تقنياً، بل احتضانًا أخلاقيًا لفكرةٍ جريئة.
ما بعد المشاهدة… أسئلة لا أجوبة
"فراغ" لا يكتمل على الشاشة. إنه عمل ينغرس في وعي المتفرّج ويتركه يواجه ذاته. يسأله عن الأم لا بوصفها رمزاً مقدسًا بل ككائن منسيّ. يُدين الصمت والغياب، لكنه لا يصدر الأحكام. يكفي أنه يُذكّر.
تقنية في خدمة المعنى
الإضاءة، الزوايا، البطء، الصوت الخافت، الموسيقى الوجودية... كلها أدوات يتم توظيفها بإتقان لتُخاطب العمق لا العين فقط. لا شيء مجّاني، كل شيء مدروس دون أن يبدو مصطنعًا.
فدوى المنصوري... مخرجة تُربّي الذائقة
من برامج قناة "قرطاج+" إلى أولى أعمالها السينمائية، تثبت فدوى أنها ليست فقط مخرجة، بل رؤية فنية متكاملة. تمتلك لغتها الخاصة، وحسّها الإنساني العالي، وإصرارها على تقديم فن لا يطلب التصفيق، بل يطلب التفكير.
"فراغ" لا يُنسى
قد يكون "فراغ" من أقصر الأفلام، لكنه من أعمقها تأثيرًا. لا يُقدّم أجوبة، لكنه يفتح الجرح. لا يصيح، لكنه يهزّنا. وبهذا، يصبح العمل شهادة على أن الفن الصادق لا يحتاج ميزانية ضخمة، بل رؤية صادقة ووجعًا حقيقيًا.