في وقت يُفترض فيه أن يكون المعلّم ركيزة لبناء مجتمع عادل ومتوازن، تكشف ورقة تحليلية جديدة للمرصد التونسي للاقتصاد واقعًا صادمًا: المعلم التونسي يتحوّل من عمود فقري للطبقة الوسطى إلى رمز للتهميش البنيوي.
💸 أجور الأدنى في القطاع العام: مفارقة التعليم
الورقة التي تحمل عنوان "من الطبقة الوسطى إلى الهامش" لا تكتفي برصد التفاوت في الأجور، بل تضع إصبعها على تمييز هيكلي طويل الأمد تجاه العاملين في وزارة التربية. وفقًا للمعطيات:
الأجر الخام للمعلم لا يتجاوز 2519 دينارًا سنة 2022.
في المقابل، يبلغ في وزارة التعليم العالي 3761 دينارًا، وفي رئاسة الحكومة 3318 دينارًا.
الأرقام لا تفضح فقط فجوة في الدخل، بل تعكس تراتبية قيمية ضمن أجهزة الدولة نفسها: فكلما اقترب الموظف من مركز السلطة، ارتفع أجره، وكلما انخرط في التعليم الأساسي، انخفضت قيمته المادية والاجتماعية.
🧮 ركود الأجور في ظل تضخم مستعر
اللافت أكثر هو ما أشار إليه التقرير بشأن ركود شبه تام في الأجور بين 2020 و2022، بنسبة زيادة لا تتجاوز 0.4%، في حين أن التضخم التراكمي التهم 12.3% من القدرة الشرائية.
هذه الأرقام تُحيل إلى معادلة قاسية: المعلم التونسي يعمل أكثر مقابل أجر أقل، وفي بيئة اقتصادية أكثر عدائية.
📊 مقارنة فاضحة: التعليم في أسفل السلم المهني
عندما يُقارن متوسط الأجور الأساسية في التعليم – حوالي 778 دينارًا – بقطاعات مثل:
- الأنشطة المالية والتأمين (2132 دينارًا)،
- المعلومات والاتصال (1350 دينارًا)،
- الخدمات الإدارية (أكثر من 1000 دينار)،
فإن الصورة تبدو مختلّة إلى حدّ العبث. كيف لقطاع يُفترض أن يكون استراتيجيًا، أن يحتلّ ذيل القائمة من حيث الدخل؟
🧠 تجارب مقارنة: ما يُدفع للمعلّم... يعكس ما نريده من الأجيال
إذا استعرنا بعض التجارب الدولية للمقارنة، نرى كيف تتعامل دول مثل:
- فنلندا: حيث يُعتبر المعلم من أعلى الوظائف احترامًا وأجرًا بعد الأطباء والمهندسين.
- كوريا الجنوبية: التي ربطت نجاحها الاقتصادي بتمكين التعليم، ورفعت أجور المعلمين لتكون محفزًا للاستقرار المهني والابتكار.
- المغرب: ورغم الأزمة الاقتصادية، أطلقت الدولة برنامج "نظام أساسي موحد" لتحسين أجور المعلمين بداية من 2024.
أما تونس، فالمعلم فيها "محاصر": بدخل شبه مجمّد، بارتفاع كلفة المعيشة، بضعف الاعتراف الرمزي، وبصمت رسمي يكاد يتحوّل إلى تبنٍ غير معلنٍ لخطة تهميش قطاع التعليم الأساسي.
🛑 خطر يهدد أكثر من كرامة المعلم
ما يطرحه التقرير ليس مجرّد صرخة من أجل تحسين أجور فئة مهنية، بل تحذير استراتيجي: إذا انهارت الطبقة الوسطى التي يُفترض أن يمثّلها المعلّم، فإن ذلك يُهدّد التوازن الاجتماعي والسياسي للدولة.
ولعلّ الأسوأ هو تحوّل التعليم إلى قطاع "طارد" للكفاءات، وسط ارتفاع الهجرة المهنية، وتوسّع الظاهرة الصامتة: تراجع الإقبال على مهنة التدريس في مؤسسات تكوين المعلمين.
🎯 خلاصة: المعلم التونسي لا يحتاج صدقات... بل عدالة
ما يطرحه المرصد التونسي للاقتصاد هو مطالبة دقيقة وعلمية بإصلاح جذري لمنظومة الأجور، لا بمنطق "الترضيات"، بل وفق أسس شفافة، عادلة، وتراعي القيمة الاجتماعية الفعلية لكل مهنة.
المعلم، باعتراف كل الأمم، هو المُحرّك الأول للتنمية البشرية. وإن لم يُنصف الآن، فالمعادلة بسيطة: سنخسر المستقبل ونحن نفاوض على الفُتات.