اختر لغتك

حين يصبح التعليم امتيازا لا حقا

حين يصبح التعليم امتيازا لا حقا

في دهاليز المؤسسات التربوية حيث يفترض أن يبدأ بناء الإنسان تمتهن كرامة فئة من الأطفال دون أن يعلن أحد عن الجريمة، تلاميذ ولدوا مختلفين لا يقصون مباشرة بقرارات علنية ولكنهم يستبعدون تدريجيا عبر منظومة عاجزة عن احتضانهم متلكئة في التغيير وعمياء عن حاجاتهم، أطفال التوحد وذوو الإعاقة لا يواجهون فقط جدران المدارس إنما يواجهون بنية ذهنية كاملة تنظر إليهم من منطلق الشفقة أو العجز لا من منطلق الحق والمواطنة.

إن ما يسمى "دمجا" لا يعدو أن يكون في كثير من الأحيان تجميلا لفظيا لحقيقة مرة جدا منظومة لا تدمجهم لكن تدفعهم نحو الهامش، فكيف يدمج طفل دون إعداد للمكان ولا تأهيل للمدرس ولا تكييفٍ للبرنامج؟ وهل يمكن لمدرسة لم تهيأ فكريا ونفسيا وبيداغوجيا أن تكون فضاء جامعا وعادلا؟ أم أن الشعارات باتت غطاء للتقاعس المؤسسي وتبريرا لسياسات اللامبالاة؟

فكل تأخر في توفير قاعة مجهزة وكل رفض لتهيئة بيئة مدرسية آمنة ومناسبة ليس مجرد تقصير في أداء الواجب بل هو إعلان ضمني بأن هؤلاء الأطفال لا يحسبون من ضمن مواطني الصف الأول وكأن الدولة تقول بصمتها إنهم غير مرئيين أو أنهم خارج حسابات الجدوى، فهل أصبحت جدوى الإنسان تقاس بمدى مطابقته للنمط السائد؟ وهل تحول التعليم من حق دستوري إلى امتياز انتقائي يمنح لمن ينسجم مع "قالب المؤسسة"؟

من هذا المنطلق لابد أن نعيد التفكير في مفهوم العدالة التربوية لا كإجراء تقني أو قرار إداري ولكن كموقف أخلاقي عميق تبنى عليه السياسات العمومية، إذ لا يعقل أن يدرج مبدأ "المساواة في الفرص" في الوثائق الرسمية في حين تقصى فئات بأكملها بسبب عجز في الخيال السياسي وتكلس في بنية القرار.

ثم إن المأساة تتفاقم حين ندرك أن الإقصاء لا يقتصر على البنية التحتية لكنه يمتد إلى البنية الذهنية التي تسير المنظومة برمتها، فكم من مسؤولٍ قرأ تقريرا عن واقع التعليم الدامج دون أن يهتز؟ وكم من مدير مدرسة برر عجزه بعدم وجود ميزانية أو غياب إطار مؤهل؟ أليست هذه التبريرات في جوهرها إعادة إنتاج للعنف المقنع وتكريسٍ لصمت جماعي يقتل الحلم في مهده؟

وما يزيد الطين بلة أن الأسرة تترك وحدها في مواجهة هذا الإقصاء وكأن الدولة تنفض يدها من دورها الأصلي كراعية للعدالة الاجتماعية، فهل يعقل أن تحمل الأمهات مسؤولية تعليم أبناءهن المختلفين في غياب أي دعم مؤسساتي حقيقي؟ كيف يمكن لامرأة ريفية أو عاملة أن توفق بين إعالة أسرتها ومرافقة طفلها والبحث المضني عن مدرسة تقبله؟

في ظل هذا الواقع المرير تطرح أسئلة وجودية تتجاوز القطاع التربوي لتطال هوية الدولة نفسها ما معنى الدولة إن لم تكن حامية للضعفاء؟ وما جدوى وجودها إن لم تكن تسخر مواردها لخدمة الجميع لا فقط للفئة القادرة على "التأقلم"؟ أليست الدولة التي تتقاعس عن توفير أبسط حقوق الطفل المختلف شريكة في تعميق الإقصاء وتوسيع الفجوة الطبقية والمعرفية؟

إن ما يحدث اليوم ليس أزمة في التمويل أو نقصا في المعدات لكنه أزمة رؤية وعطب في البنية الرمزية للدولة، فبدل أن تكون المدرسة مرآة للعدالة الاجتماعية أضحت انعكاسا لتناقضاتها فهي تكرس التفاوت بدل معالجته وتعيد إنتاج الامتيازات بدل تفكيكها وتمنح التعليم لمن ينسجم مع معاييرها لا لمن يحتاجه أكثر.

هنا، يتحول التعليم إلى ساحة صراع غير معلن تتصارع فيها الفئات المهمشة مع بيروقراطية باردة لا ترى الإنسان بل الأرقام ومع منظومة عاجزة عن تجاوز مقارباتها التقليدية، فكم من طفل حكم عليه بالإقصاء لأنه "لا يتجاوب" دون أن يسأل عن البيئة التي فرضت عليه؟ كم من حلم أُجهض لأنه لم يجد مقعدا شاغرا لا ماديا فحسب بل رمزيا؟

في مقابل هذا السكون الرسمي لابد من يقظة سياسية ومجتمعية تعيد الاعتبار لهذا الملف، يقظة تدرك أن الإقصاء التربوي ليس معزولا عن بقية أوجه التهميش فهو مرتبط بإقصاء سياسي وبفقر ثقافي وبنظرة اختزالية للإنسان المختلف، إذ لا يمكن أن نحقق تنمية شاملة ونحن نقصي أطفالا لمجرد أنهم يتكلمون بلغة أخرى أو يتحركون بشكل مختلف أو يدركون العالم بإيقاعهم الخاص.

لذا، فإن المطلوب اليوم ليس فقط إصلاحا تقنيا محدود الأفق إنما ثورة تربوية شاملة تعيد تعريف المدرسة بوصفها فضاء إنسانيا قبل أن تكون فضاء أكاديميا، مدرسة ترى في التعدد مصدر غنى لا تهديدا وفي الاختلاف فرصة لا عبئا، مدرسة تعترف بأن العدالة لا تتحقق بالمساواة الصماء لكن بالتكييف والتأهيل والاستعداد للاختلاف.

كما وإن مستقبل المجتمعات يبنى اولا وقبل كل شئ من مقاعد الدراسة لا من شعارات المؤتمرات، فإن نحن أخفقنا في إدماج المختلف اليوم سنجد أنفسنا غدا في مواجهة أجيال ناقمة، مقصية، ومحرومة من الانتماء وهنا تحديدا تكمن خطورة الصمت.

فكم من طفل يجب أن يقصى؟ وكم من حلم يجب أن يجهض؟ وكم من أم يجب أن تنهار على عتبة مؤسسة رفضت ابنها حتى ندرك أن الكارثة لم تعد صامتة؟ وهل نملك ما يكفي من الشجاعة لنقول إن الدولة حين تقصر في احتضان أطفالها المختلفين فإنما تقصر في حفظ جوهرها الأخلاقي والإنساني؟

لقد آن الأوان لأن نحول الغضب إلى فعل والخذلان إلى وعي والصمت إلى مساءلة، فإما أن نبني مدرسة تتسع للجميع أو نعترف صراحة أننا لا نستحق أن نسمى دولة عادلة.

آخر الأخبار

🔥 «الشمعة» تحترق على خشبة تونس... ومسرحي إماراتي يبكي قلمه وحبيبته!

🔥 «الشمعة» تحترق على خشبة تونس... ومسرحي إماراتي يبكي قلمه وحبيبته!

🔥 جريمة على الهواء: مقتل مؤثرة مكسيكية بالرصاص أمام آلاف المتابعين!

🔥 جريمة على الهواء: مقتل مؤثرة مكسيكية بالرصاص أمام آلاف المتابعين!

حين يصبح التعليم امتيازا لا حقا

حين يصبح التعليم امتيازا لا حقا

🎤🔥 سليم السبيعي يفجّر قاعة سليمان بمسرحيتين هزّتا الوجدان... وإذاعة الشباب تسارع للتسجيل!

🎤🔥 سليم السبيعي يبدع في اخراج مسرحيتين هزّتا الوجدان... وإذاعة الشباب تسارع للتسجيل!

عندما يعلو صوت العقل داخل أسوار الإفريقي… التحالف يُشهر خريطة الإنقاذ!

عندما يعلو صوت العقل داخل أسوار الإفريقي… التحالف يُشهر خريطة الإنقاذ!

Please publish modules in offcanvas position.