تونس، شتاء 1934.
بين جدران المدينة العتيقة، وقُبالة صدى المعارك الوطنية والصحوة الثقافية، اجتمع رجال من نخبة البلاد في جلسة عامة تأسيسية ستُغيّر وجه الموسيقى التونسية إلى الأبد. كانت تلك لحظة ولادة "الرشيدية"، أول مؤسسة تُعنى بحفظ التراث الموسيقي التونسي، وكان اللافت أن 14 من مؤسسيها كانوا من أبناء النادي الإفريقي، النادي الذي لم يكتفِ بالرياضة، بل حمل مشعل التنوير الثقافي في البلاد.
🔴 الإفريقي... أكثر من نادٍ، حاضنة للنهضة الفنية
في وثائق محفوظة لدى الرشيدية وبعض الشهادات الشفوية الموثقة، يتأكد أن أسماء بارزة من الرعيل الأول للإفريقي كانوا حاضرين في الجلسة التأسيسية للرشيدية يوم 3 ديسمبر 1934 بمقهى الكرافتشي بشارع باب منارة.
وكان من بينهم رجال مثل:
- الأستاذ أحمد الضحاك، أحد روّاد النادي الإفريقي الأوائل
- الهادي بن زكري، المثقف المعروف وعضو الهيئة المديرة
- حسن الماجري، عازف عود وعضو فاعل في النشاط الثقافي للنادي
وغيرهم من "كعباوية الفكر" الذين رأوا في الموسيقى سلاحًا لمقاومة الاغتراب الثقافي.
📜 التأسيس بين الرياضة والفن
جاءت الرشيدية كرد فعل على مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة سنة 1932، حيث لاحظ الوفد التونسي، وعلى رأسه الشيخ محمد الشريف، خطر ذوبان الهوية الموسيقية التونسية وسط الموجة المشرقية.
وما لبثت هذه الملاحظة أن تحوّلت إلى دعوة للعمل، فجاء اللقاء التاريخي بقيادة الشيخ خميس الترنان والصادق الرزقي وبدعم من الفاعلين في النادي الإفريقي، ليُعلن رسميًا عن ميلاد جمعية "الراشيدية"، نسبة إلى الشيخ محمد رشيد، شيخ الجماعة.
🎤 الإفريقي كان أول من موّل ودعّم العروض
تُظهر أرشيفات من الصحف الصادرة بين 1934 و1935 أن بعض العروض الأولى للرشيدية أقيمت بدعم مالي ولوجستي من "نادي الإفريقي الثقافي"، وكان مقرّه قرب باب الجديد، حيث أُتيحت القاعات والتجهيزات مجانًا لفائدة تدريبات الفرقة.
🎶 الرشيدية والإفريقي... توأمان في ذاكرة الوطن
لم يكن غريبًا أن تجد بين الحاضرين في أولى حفلات الرشيدية شُبّانًا يرتدون قميص النادي الإفريقي، يهتفون للمالوف كما يهتفون لفريقهم في الملاعب. فهم أنفسهم من حلموا أن يكون للنغمة التونسية "دفاع ووسط وهجوم"... كما للفريق تشكيلته!
📍 ... حين تصنع الأندية التاريخ الثقافي للأمم
اليوم، وبعد مرور 90 عامًا، لا يمكن الحديث عن تأسيس الرشيدية دون الاعتراف بدور النادي الإفريقي، الذي كان أكثر من مجرّد نادٍ رياضي: كان مصنعًا للرجال، حاضنة للفكر، ومنبرًا لفنّ تونسي أراد أن يبقى تونسيًا.