في قلب مدينة السليمانية، وتحديدًا داخل فضاء دار الثقافة، تتجلّى منذ 13 نوفمبر تجربة فنية خارجة عن المألوف يقدّمها الدكتور محمد الغرياني، عبر 12 لوحة تشكيليّة تستدرج الزائر إلى عالم متوترٍ بين الانضباط العلمي وتدفّق الروح. تحت عنوان «صراع المادة والروح»، يفتح الغرياني نافذة واسعة على تأملات كونية عميقة، حيث تتحاور الفيزياء الكمية مع الهندسات المقدسة، وتتماهى الفكرة الفلسفية مع الصنعة الفنية.
المعرض، الذي يمثّل خطوة جريئة في مسار الفنان، يكشف مسعى واضحًا إلى كسر الحدود التقليدية للفن التشكيلي. فالريزين هنا ليس مجرد تقنية، بل مادة حيّة تتفاعل مع إرادة الفنان وتتمرد عليها في الآن ذاته، فيما تبدو الصدفة جزءًا من تصميم إلهي دقيق، لا فوضى فيه ولا ارتباك.
وتتوزع أعمال الغرياني بين لوحات كبيرة تفيض بدهشة الكون، وأخرى صغيرة تنبض بدقة التفاصيل:
- ثماني لوحات بقياس 70×70 سم،
- لوحتان بقياس 70×140 سم،
- لوحة بقياس 40×40 سم،
وأخرى في 30×20 سم.
هذا التنوع ليس تزيينيًا بقدر ما هو استحضار لعلاقة الكلي بالجزئي، حيث تتحرك العناصر كما تتحرك المجرات والجسيمات في تناغم خفي.
في اللوحات الأكبر، يتدفق الريزين على الخشب كأنه موجات طاقة كونية، تولّد دوائر ودوامات تذكّر بالهندسات المقدسة وبالبنى العميقة للكون في مستواه غير المرئي. أما اللوحات الأصغر، فتغوص في الرموز الدقيقة للزهرة الحياتية والنسبة الذهبية، في تماهٍ مُحكم بين الروحاني والعلمي.
محمد الغرياني، الذي يجمع بين شهادة الدكتوراه في التصميم ومسيرته الأكاديمية في المعهد العالي للفنون والحرف بالمهدية، يقدّم هنا خلاصة رحلة بحث طويلة، مزج فيها قوانين الطبيعة بتساؤلات الوجود. أعماله ليست “لوحات معلّقة”، بل نصوص بصرية تُقرأ طبقة بعد طبقة، وتُشاهد كما لو أنها تنبض تحت الضوء.
وفي حديثه، ثمّن الغرياني احتضان دار الثقافة بالسليمانية لمعرضه، معتبرًا أن المدينة –بثقلها التراثي والثقافي في كردستان العراق– تمنح التجربة بعدًا إضافيًا، وتفتح بابًا للتواصل مع جمهور متنوّع يعشق الفن المعاصر ويبحث عن المعنى في تداخل الروح مع المادة.
بهذا المعرض، يضع الغرياني المشاهد في قلب سؤال قديم متجدّد:
هل نحن نوجّه المادة… أم أنّ المادة هي التي تكشف لنا حدود الروح؟
منصف كريمي



