منصف كريمي
في إطار توجه استراتيجي لوزارة الشؤون الثقافية التونسية يروم إعادة تموقع المهرجانات ضمن مقاربة فنية متخصصة، وتوظيف المعالم الأثرية كمنصات حية للترويج الثقافي والسياحي عبر وسائط الديجيتال وصحافة القرب، تحتضن ولاية بن عروس – وتحديدًا الموقع الأثري العريق أوذنة – فعاليات الدورة الجديدة من المهرجان الدولي للفنون الشعبية، وذلك من 26 جويلية إلى 5 أوت 2025، بدعم من المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية، وبإشراف مباشر من وزارة الشؤون الثقافية.
أوذنة... حيث يتحول التاريخ إلى مسرح حي
ليست أوذنة مجرّد موقع أثري يعود للعصر الروماني، بل ذاكرة نابضة للهوية الحضارية التونسية، وها هي اليوم تتحول إلى ركح حيّ، حيث يتقاطع الفن مع الأثر، وتُبثّ الحياة من جديد في الحجارة الصامتة عبر الإيقاعات والرقصات والحكايات الشعبية، في عرض فني جماهيري يحمل الذاكرة من الهامش إلى الواجهة.
المهرجان هذا العام يُعقد في شراكة مؤسسية فاعلة مع وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، ومسرح الأوبرا بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي، والمعهد الوطني للتراث، في مقاربة تدمج الثقافة بالتاريخ، والترفيه بالهوية، والفرجة الجماهيرية بالتسويق الثقافي الحديث.
الفنون الشعبية: ليست ترفيهًا... بل مقاومة ناعمة
تسعى هذه الدورة إلى إعادة تعريف الفنون الشعبية لا بوصفها فولكلورًا قابلاً للاستهلاك السياحي، بل باعتبارها مرآة صادقة للهوية، ووعاءً جمعيًّا تتقاطع فيه الذاكرة بالأسطورة، والطقس الجماعي بالإبداع الفردي.
هنا، يصبح الرقص تعبيرًا عن الانتماء، والغناء مقاومة ناعمة ضد النسيان، والإيقاع الشعبي لغة عابرة للحدود، تنقل رسائل السلام والفرح والتمسك بالجذور.
برمجة متوازنة بين الأصالة والانفتاح
يمتدّ البرنامج الفني على عشرة أيام من التنوع والإيقاع والفرجة، يفتتح يوم 26 جويلية بعرض خاص للفرقة الوطنية للفنون الشعبية في لوحة تحتفي بالحركات والأزياء التونسية الأصيلة.
من الهادي دنيا إلى زينة القصرينية، ومرورًا بـ عبد الرحمان الشيخاوي، سمير لوصيف، وليد التونسي، ونور شيبة، تتعدد الوجوه الفنية التي تحتفي بالفن الشعبي في أبعاده البدوية والريفية والشرقية، مع فسحة عالمية من خلال مشاركة النجم المصري محمود الليثي.
أما لحظة المقاومة الفنية، فتتجلى في عرض فرقة الكوفية الفلسطينية يوم 4 أوت، حيث يتحوّل الركح إلى مساحة حرة للتعبير عن قضية شعب عبر الفنون الشعبية، في تجسيد حيّ لمعنى أن يكون الفن حارسًا للكرامة.
ويكون مسك الختام يوم 5 أوت مع عرض يجمع بين نور الدين الكحلاوي وابنته مريم نور الدين، في لقاء فني عائلي يختصر عبق التراث ورقّة الروح.
نحو دبلوماسية ثقافية من رحم التراث
هذا المهرجان لا يسعى فقط لإحياء الفنون الشعبية، بل يؤسس لما يمكن تسميته بـ "دبلوماسية ثقافية من رحم التراث"، حيث تصبح الفنون الشعبية أداة للتبادل الثقافي والتقاطع الحضاري بين الشعوب، بعيدًا عن الرسميات والحدود الجغرافية.
ومن خلال استثمار المحامل الرقمية الحديثة، تتجه وزارة الشؤون الثقافية إلى جعل هذا الحدث واجهة رقمية تُروّج لتونس الثقافية عالميًا، وتجعل من الموقع الأثري بأوذنة صورة مشعّة تُلتقط عبر الهواتف والكاميرات، لتُبث إلى العالم بلغات مختلفة.
أوذنة... حين تتعانق الحضارات على ركح واحد
في زمن تتآكل فيه الروح الجماعية، يُعيد مهرجان أوذنة الدولي للفنون الشعبية طرح سؤال الهوية والانتماء بشكل فني راقٍ. هو دعوة مفتوحة للفرجة والتأمل معًا، حيث تتقاطع الأغاني بالأساطير، وتتعانق الثقافات في فسحة من الزمن الجميل.
في هذا المهرجان، لا تُشاهد العروض فقط، بل تُستعاد الذاكرة وتُستولد الحكايات، ويُصبح كلّ زائر شاهدًا على لحظة تلاقٍ بين الماضي والحاضر، بين الصدى والرؤية، وبين الحكاية والحلم.